أزتاك العربي- مذكرات مطران الأرمن جان نازليان، أسقف طرابزون، عن الأحداث السياسيّة والدينيّة في الشرق الأدنى، من العام 1914 حتّى العام 1928 (2)
ب- القواعد التي تسلّح بها الأتراك الفتيان لدعم مخططهم، وطرق الإبادة
من حقّ رينيه بينون أن يُعَنون كتابه: “القضاء على الأرمن: طريقة ألمانيّة وتنفيذ تركي” (المكتبة الأكاديمية، باريس، 1916). ونحن نعتقد أنّه من الأفضل تعريف كلمة “القضاء” على الشكل التالي: “طريقة طائفيّة متعصّبة وتنفيذ الأتراك الفتيان”.
في الواقع، لم يَخْفِ القائمون على هذا الفعل الطبيعة الطائفيّة لهذا العمل الإجرامي، وزادوها سوءًا بنشر بعض قواعدها في الصحف، بطريقة لا تخلو من الوقاحة، محاولين رسم عقيدة تبرّر اعتداءهم على حقّ الإنسان في الحياة. إنّ هذه القواعد نفسها اعتُمدت من قبل الأديان التي انتشرت بحدّ السيف، وتمّ عرضها بطريقة علميّة خاطئة في صحيفة “الهلال الأحمر” الناطقة الرسميّة بلسان لجنة “الاتحاد والترقي”، باللغة الفرنسيّة، ننقل بعضًا منها فيما يلي:
1- وفقًا لقوانين الطبيعة، تشكّل الأعراق الدُنيا قوتًا للأعراق الراقية.
2- تشكّل الحرب نظام القوّة الموضوع بتصرّف الأعراق المهيمنة للدفاع عن أنفسها ضدّ الضعفاء الذين وجب عليهم تحمّل العواقب، مهما كانت كارثيّة بالنسبة إليهم.
3- إنّ القتل هو غضب الأشراف بحقّ الأعراق الدنيئة التي لديها برنامج عمل خطير وعدائي.
4- ما أن يُتّخذ قرار البدء في المجازر حتّى وجب متابعته حتّى النهاية، من دون الخضوع إلى تأثير أحد، ولا التوقف عند أي سبب عاطفي… وهذا ليس عمل وحشي، بل يعبّر عن قوّة الشخصيّة.
5- إنّ قتل الشعوب، بغضّ النظر عن العمر والجنس، هو ضرورة عسكريّة.
6- إنّ قتل الأطفال التابعين لعرق معاد هو تدبير وقائي يفرضه الذَود عن الوطن.
7- إنّ هؤلاء الأطفال، ولو كانوا في رحم أمّهاتهم، يشكّلون ذريّة منبوذة، وهم غير جديرين بالحياة. (بالاستناد إلى تلك القاعدة، تمّ بقر بطون النساء الأرمنيّات الحاملات من دون رحمة، إبّان المجازر، وسحق الأطفال على الصخور والأشجار. أُجبر العديد من النساء على السير لأيّام وأيّام، وكنّ لا يزلن في بداية حملهنّ ليصيرنّ أمّهات، بل وأكثر من ذلك، فيما هنّ يُجرجرن خطاهنّ، تمّ إنهاء حياتهنّ تحت ضربات السياط المهلكة).
8- يعتمد وجود الإمبراطوريّة واستمراريتها على قوّة حزب تركيا الفتاة، وقمع جميع الأفكار المناهضة (مؤتمر الأتراك الفتيان في تيسالونيكي، العام 1911). وفي هذا المؤتمر، تمّ الاتفاق على خطة عمل سلبيّة تحتوي على قرارات الإبادة للمسيحيين، بشكل عامّ، في أوّل فرصة مناسبة.
9- بما أنّ “أوروبا الرسميّة لم تتحرّر كفاية من المفاهيم اللاهوتية والميتافيزيقية، وبما أنّ الأحكام المسبقة والتعصب الديني باقية فيها، ويُعبَّر عنها في كلّ حين”، فإنّ المسلمين، هم أيضًا، لهم الحقّ في الوقوف كتلة واحدة، وشنّ حرب مقدّسة ضدّ الكفّار، القريبين والبعيدين، مستعينين بتعاليم القرآن. وهكذا، تمّ إعلان الجهاد، في 15 تشرين الثاني 1914، لإثارة المسلمين المنتشرين في جميع دول العالم ضدّ المسيحيّة. لكنّ سخريّة القدر أرادت بأنّ الذين حَرَّضوا على تمثيليّة الحرب المقدّسة تلك تحالفوا مع قوى مسيحيّة أخرى صاحبة مفاهيم لاهوتيّة وميتافيزيقيّة.
جاء في القرآن ما يلي: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً” (سورة التوبة 123)؛ “وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ” (سورة النساء 104)؛ “فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ” (سورة محمد 34). بالاستناد إلى تلك الآيات، أُعلنت فتوى الجهاد على الشكل التالي:
“حين يتّحد أعداء كثيرون ضدّ الإسلام، وحين تُنهب الدول الإسلاميّة، ويُضطهد السكان المسلمون ويُسجنون، ونظرًا لتلك الظروف، تُعلن خلافة المسلمين الجهاد، وفقًا لأحكام القرآن المقدّسة.
أليست الحرب من واجب المسلمين كلّهم، شباب وشيوخ، مشاة وخيّالة، تدفعهم الغيرة على إيمانهم لشنّ الحرب؟ الجواب: نعم.
أليس من واجب المواطنين المسلمين في روسيا وفرنسا وإنكلترا والدول التي تساندها الجهاد ضدّ الدولة التابعين لها؟ الجواب: نعم.”
لم تنتشر تلك التأكيدات خارج حدود البلدان المحتلّة من الجيوش التركيّة وحلفائها، ولم يكن لها صدى يُذكر إلاّ في داخل تركيا، بخاصّة أنّ الأتراك الفتيان كانوا يقولون: “إنّ مشاعر الشعوب، بما له علاقة بأمورهم الداخليّة الخاصّة، لهم وحدهم الحقّ بالمضي فيها قدمًا”. أمّا المسلمون المتواجدون في الدول العدوّة الأخرى، فقد قاتلوا في الجيوش التابعة لكلّ دولة منها ضدّ قوّات الأتراك الفتيان، بعد أن عدّوهم من المرتدّين عن الإسلام، وقاتلوا بكلّ تفان، مثلهم مثل الجنود المسيحيين. وبالمقابل، رَفَع إعلان الجهاد وتيرة بغض الأتراك المسلمين لمواطنيهم المسيحيين، وبخاصّة الأرمن، إلى حدّه الأقصى. لذلك، فيما كان مخطّط إبادة هذا العرق المجرّد من السلاح له دوافع سياسيّة، في البداية، فإنّ تنفيذه حرّكته الدوافع الدينيّة البحتة التي ذكرها إعلان الجهاد.
ومن المفيد أيضًا عرض بعض القواعد الإضافيّة التي اعتمدها الأتراك الفتيان:
10- لم تغيّر ثورة الأتراك الفتيان في نظام العقيدة الدينيّة والفلسفيّة المعتمدة لرسم سياسة السلاطين الخلفاء، لأنّ أبناء الثورة العلمانيّة والمعادية للدين هؤلاء، حافظوا على قسم من إيمان أجدادهم، إضافة إلى كلّ ما لديهم من كراهيّة ضدّ المسيحيّة، تتلخّص في هذه المبادئ الهمجيّة: “وحده التركي هو إنسان كامل، أمّا باقي الناس فليسوا سوى حثالة الطبيعة. وحده التركي له الحقّ في الحياة وفي الهيمنة، أمّا غير الأتراك فهم محكومون بالفناء أو موضوعون بخدمة الأتراك.”
11- آمن الشعب التركي بالقضاء والقدر، لذلك وصل به الأمر إلى التنصل من مسؤولية المجازر التي نفّذها بكلّ إخلاص، عملاً بالأوامر التي تلقّاها، مبرّرًا عمله بما جاء في القرآن: “الله خلقكم وما تعملون” (سورة الصّافات 96). وبالتالي، فإنّ الأفعال الإجراميّة التي ارتُكبت أثناء المجازر، مثل الاغتصاب والسرقة والسطو، هي أفعال سمح بها الله، وتغاضى عنها، ووافق عليها.
12- لا مكان للشريعة الطبيعيّة ولا حتّى للحقوق الطبيعيّة أمام رأي الخليفة وإرادته، لأنّه هو ظلّ الله على الأرض. يكفي الحصول على موافقته لتبرير أي عمل يقوم به المسلمون، وهو لم يكن سوى أداة غير مسؤولة بين أيدي الحكومة، هو الحَكَم الوحيد، والسيّد المطلق على حياة رعاياه. لذلك، صار كلّ قمع أو اضطهاد أو نهب أو تعذيب بحقّ الأرمن الذين حكمت عليهم الحكومة بالموت مسموح به، ويمرّ من دون عقاب، إذ لا يُعدّ جريمة، بل على العكس، هو فعل يُقدَّر عليه التركي الذي قام به. وعلى هذا الأساس، عندما أُلقي القبض على الدكتور حسن فؤاد، واقتيد أمام محكمة الموصل بتهمة قتل كاهنين كلدانيين من أهل المدينة، أخلى القاضي سبيله حين قال له بأنّه لم يكن يعرف هويّة الضحيتين، واعتبرهما من الأرمن، وهذا الأمر يثبت أنّ قتل الأرمن كان مسموحًا به.
13- حاول الأتراك تبرير هذا الإذن المتعمّد، وزعموا بوجود ثورة أرمنيّة خنقتها الحكومة في المهد. ومع ذلك، فقد تمّ الإعلان، بكلّ وقاحة، على أنّ المجازر ليست إلاّ لقمع هذا التمرّد… وقام أنور باشا، وزير الحرب والقائد العامّ للجيش، في 26 كانون الثاني 1915، بتهنئة أسقف كونيا الأرمني الغريغوري على ولاء الأرمن، طالبًا منه تبليغ رضاه واعترافه بالجميل إلى الأمّة الأرمنيّة المعروفة بإخلاصها الكامل لحكومة الإمبراطوريّة العثمانيّة. وفي وقت لاحق، قام الجزّارون أنفسهم بالتقاط صور لجثث الأرمن في ديار بكر وملاطية وغيرها من الأماكن، بعد أن لفّوا الرؤوس بالعمائم، كدليل قتل الأتراك على يد الأرمن: هذه هي الثورة، وهذا هو الدليل!
14- إنّ هذه العقيدة التي توصي بالمجازر، والأوامر التنفيذيّة الصادرة لتطبيقها على جميع المسيحيين، نُشرت في كتيّب باللغة العربيّة تمّ توزيعه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، جاء فيه: “إنّ إبادة المسيحيين الحقيرين هي مهمّة مقدّسة وجب القيام بها بالسرّ وبالعلن، وفقًا لأوامر القرآن: أُلقوا القبض عليهم واقتلوهم حيث تجدوهم، إنّنا نعطيكم السلطة المطلقة عليهم.” وبالفعل، يحتوي القرآن على مثل تلك الآيات، لكنّها موجهة ضدّ عبدة الأصنام. يبقى لمن يفسّر هذا الكتاب الذي هو بمنزلة إلهيّة لدى المسلمين، بخاصّة شيخ الإسلام الذي هو المفسّر الأعلى الذي يتمتّع بسلطة خاصّة، أن يكيّف تلك المتطلبات والنصوص مع الأوامر الصادرة بهذا الخصوص عن السلطان مباشرة أو بواسطة حكومته. وبالنسبة لهذا الموضوع، كانت حكومة الأتراك الفتيان تفرض تفسيراتها على السلطان محمد الخامس كي تتناسب مع ما جاء في الكتيّب المذكور.
الرئيسية / الأخبار / مذكرات المطران جان نزليان..القواعد التي تسلّح بها الأتراك الفتيان لدعم مخططهم، وطرق إبادة الأرمن
القضية قضية الشعب الأرمني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.