عمليات تزوير ممنهجة، معدة بشكل جيد.. هكذا أدار رجب إردوغان انتخابات البلديات التي انتهت الأحد الماضي، والتي سخر فيها كل طاقات ومؤسسات الدولة للدعاية لمرشحي حزبه العدالة والتنمية، ومع ذلك فقد أهم المدن لصالح أحزاب المعارضة.
تجاوزات بالجملة رصدتها المنظمات الحقوقية الدولية، خلال انتخابات البلديات التركية، بينها تصويت الجنود مرتين، وتصويت جماعي، ورصد تلاعب في قوائم الناخبين، والتصويت باسم مواطنة تعيش في الولايات المتحدة منذ 3 سنوات، ورشاوى قدمها حزب العدالة والتنمية الحاكم بلغت 100 ليرة، ومع ذلك لم يفلح إردوغان في تحقيق هدفه من السيطرة على البلديات كما سبق وسيطر على الحكم منفردًا منذ العام الماضي.
المتتبع للتاريخ العثماني، سيجد أن إردوغان لم يفعل أكثر من أن نقل سر الخلطة من كتاب العثمانيين، فقد سبقه أجداده من حزب الاتحاد والترقي الذي حكم السلطنة بين عامي 1908 وحتى 1918، في اتباع نفس الإجراءات لتزوير الانتخابات وضمان نجاح ممثلي الحزب بعد قرون لم يعرف فيها العثمانيون إلا حكم الفرد الغاشم.
أزمة اقتصادية طاحنة
انتخابات البلدية جرت في وقت تشهد فيه تركيا أزمة اقتصادية طاحنة، جعلت الشارع التركي رافضا لكل مرشحي الحزب الحاكم، الأمر الذي دفع إردوغان للقيام بعملية الدعاية الانتخابية للحزب بنفسه، أملا في تحريك وجهة الشارع إلى مرشحيه، ولجأ إلى عمليات تزوير ممنهجة للانتخابات، وهو ما فضحته كاميرات الصحف ووكالات الأنباء العالمية، ورغم ذلك نجحت المعارضة في اقتناص المدن الرئيسة أنقرة وإسطنبول وإزمير وأنطاليا من مرشحي العدالة والتنمية.
ربما يكون لوجود الميديا الحديثة دورها في كشف ألاعيب إردوغان إلا أن أجداده نجوا من المصير ذاته بسبب غياب الوسائل التي تعري فضائح تزويرهم للانتخابات.
الوجه القبيح
انتخابات مجلس “المبعوثان” العثماني كشفت الوجه القبيح للديمقراطية العثمانية، فلم تكن التجربة التركية الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، فقد سبقتها التجربة المصرية على يد محمد علي باشا، والذي أسس “مجلس المشورة”، ثم حوله الخديو إسماعيل إلى “مجلس شورى النواب”، والذي أسس لحياة برلمانية نزيهة، أصبحت نموذجا يسعى مثقفو الدولة العثمانية لتقليده، لكن القيادة السياسية العثمانية متمثلة في السلطان عبد الحميد الثاني ثم جمعية الاتحاد والترقي أبت إلا أن تشوه وتزور إرادة الأهالي لصالح جماعات المصالح التركية.
إلا أن انتخابات “المبعوثان” التي جرت أول مرة في تاريخ الدولة العثمانية عام 1877 لم تكن انتخابات بالمعنى الصحيح، ففي كل ولاية من ولايات الدولة العثمانية لم ينتخب الناس نوابهم بل انتخبتهم المجالس البلدية في تلك الولايات لعدم وجود قانون الانتخابات الخاص بانتخاب أعضاء لمجلس “المبعوثان”.
لم يستمر مجلس “المبعوثان” العثماني سوى شهور قليلة، إذ قام عبد الحميد الثاني بتعطيل العمل بالدستور وحل البرلمان، بحجة انشغال السلطنة بالحرب مع روسيا القيصرية، وعدم أهلية سكان السلطنة للحياة الديمقراطية، وأرجع ذلك لانتشار الجهل بين الناس وعدم معرفتهم القراءة والكتابة، واستمر المجلس مُعطلا مدة 30 عاما.
انتخابات 1908
أعلن السلطان عبد الحميد الثاني إعادة العمل بـ”المشروطية” أي الدستور العثماني في 24 يوليو 1908، وبموجبه تمت دعوة الناخبين للمشاركة في انتخابات مجلس “المبعوثان” العثماني، وبدأت الاستعدادات لإجرائها، وكلف الصدر الأعظم كامل باشا القبرصي بتشكيل حكومة جديدة عُهد إليها الإشراف على انتخابات مجلس “المبعوثان” العثماني (البرلمان العثماني)، وكان النائب فيه يسمى “مبعوث”.
أصدر السلطان عبد الحميد الثاني قانون الانتخابات العثمانية في 20 سبتمبر 1908، والذي وضع شروط الترشح والانتخاب للبرلمان التركي، ونص على أن يتم انتخاب مجلس “المبعوثان” كل 4 أعوام، واشترط في المرشحين إجادة اللغة التركية، ويتم انتخاب عضو واحد عن كل 50 ألف ذكر من رعايا السلطنة، ويعتبر كل عضو في “المبعوثان” نائبا عن عموم العثمانيين وليس عن الدائرة التي انتخبته فقط، ومن الواجب على الناخبين أن ينتخبوا “المبعوثان” من أهالي دائرة الولاية التي هم منها.
استغلت حكومة الاتحاد والترقي نفوذها السياسي في السلطنة لتمهيد الطريق لتزوير انتخابات مجلس “المبعوثان”، وقامت بعزل أغلب الموظفين غير الأتراك من الحكومة، وقامت الحكومة بتشكيل لجان في إسطنبول وعواصم الولايات لحصر أعدادهم في الإدارات الحكومية، ولاسيما وزارتي الداخلية والخارجية، وقاموا بعزل المئات من مناصبهم، ومن أشهر المعزولين عزت العابد ونجيب ملحمة.
أعلن حزب الاتحاد والترقي أن هدفه من دخول الانتخابات الحصول على الأغلبية المطلقة لكي يتمكنوا من تطبيق سياسة التتريك، كما صرح “نجم الدين منلا بك” وزير العدل العثماني أن سياسة الحكومة تسير في طريق تمكين حزب الاتحاد والترقي.
لم يلتزم مرشحو حزب الاتحاد والترقي بالشروط المنظمة للانتخابات، واستغلوا كلمة “الواجب” الواردة في قانون الانتخاب وفسروها بأنها لا تعني الحتمية، وهكذا عمدوا إلى ترشيح “مبعوثان” من الاتحاديين في مختلف الولايات، واستغلوا الصحف للترويج لمرشحيها وبث روح العداء ضد منافسيها، مما ضمن للاتحاديين الأتراك أغلب مقاعد البرلمان، حتى أن مرشحيهم فازوا بـ15 مقعدا في البرلمان عن الولايات العربية.
أكبر عملية تزوير
شهدت الدولة العثمانية أكبر عملية تزوير انتخابية في 24 أكتوبر 1908، إذ حشد حزب الاتحاد والترقي أعضاءه للاستحواذ على أغلب مقاعد مجلس “المبعوثان”، ووزع مندوبين له في كل اللجان الانتخابية، ووضع على كل صندوق عضوين لمراقبته، وتمكنوا من غلق 50 لجنة انتخابية كان أغلب سكانها من مؤيدي زعماء العشائر العربية المعارضة للاتحاديين، وحدثت اشتباكات عديدة أسفرت عن قتل 75 شخصا.
وفي ذات الوقت كان أعضاء حزب الاتحاد والترقي يتجولون في المدن والقرى ويطوفون على البيوت ويسلمون الناخبين “تذكرة” مسجلا بها بيانات الناخب ومطبوعا على الوجه الأخر للتذكرة شعار الاتحاد والترقي وصورة مرشحه، ويسلمون الناخبين جداول بأسماء المرشحين الواجب اختيارهم، ويرسلون هؤلاء الأهالي برفقة أحد أعضاء الاتحاد والترقي إلى مقر اللجان الانتخابية، ليتولى بعدها مندوبوهم في اللجان مهمة إجبار الناخبين على التصويت لقوائم الاتحاديين.
انعقدت أولى جلسات مجلس “المبعوثان” العثماني بعضوية 275 نائبا، وحصل حزب الاتحاد والترقي على أغلبية المقاعد، وبات مجلس “المبعوثان” منبر الاتحاديين الأتراك لتنفيذ سياسة التتريك وقمع الأقليات العرقية والدينية.
اعترض مثقفو الولايات العربية على انتهاكات حزب الاتحاد والترقي في انتخابات عام 1908، وبعثوا بشكوى إلى رئاسة مجلس “المبعوثان”، وطالبوا بوضع مادة في الدستور تنص على وجوب إقامة المرشح للانتخابات مدة 3 أعوام في الولاية المرشح لها، وذلك درءا لما يصيب العرب والولايات غير التركية من ترشح الاتحاديين الأتراك في ولاياتهم، ولم يحظ هذه الاقتراح بقبول المجلس صاحب الأغلبية الاتحادية فرفضه المجلس.
انتخابات العصا “1912”
شعرت جمعية الاتحاد والترقي بانهيار شعبيتها في الانتخابات الفرعية التي جرت في إسطنبول لانتخاب نائب عنها بدلا من أحد النواب المتوفين، والتي فاز فيها طاهر خير الدين المرشح عن حزب الحرية والائتلاف، الأمر الذي زاد من حدة المعارضة في مجلس “المبعوثان” ضد الاتحاديين ففكروا في حل مجلس “المبعوثان” لحشد أكبر عدد ممكن من الاتحاديين في البرلمان.
ادعى الاتحاديون أن هدفهم من حل البرلمان هو تعديل المادة رقم 35 من الدستور، والخاصة بتقسيم الدوائر الانتخابية جغرافيا، واستندوا في ذلك إلى صلاحيات حزب الأغلبية في البرلمان، وأجبروا السلطان محمد الخامس رشاد على حل مجلس “المبعوثان” في 18 يناير 1912، وقررت حكومة الاتحاد والترقي إجراء الانتخابات في غضون 3 أشهر ابتداءً من تاريخ حل المجلس.
أجريت انتخابات مجلس “المبعوثان” الثالث في ظل حكومة الاتحاد والترقي، ولكن هذه المرة لم يدخل الانتخابات دون منافسين، إذ تجمعت القوى المعارضة لسياسات التتريك تحت راية “حزب الحرية والائتلاف”، وهو ما أفزع قيادات الحزب وأعضاء الحكومة الاتحادية، لذلك بذلوا كل ما بوسعهم لتزوير إرادة الناخبين.
ووفق قانون الانتخاب العثماني فقد كانت عملية التصويت تتم على أساس “الانتخاب المفتوح”، أي يقوم الناخب بالتصويت أمام موظفي الحكومة، ولما كان أغلب سكان السلطنة أميين لا يعرفون القراءة والكتابة، فقد تحججت حكومة الاتحاد والترقي على قيامها بعمليات التصويت الجماعي بأنها تقوم بمساعدة الناخبين على اختيار من يريدون دون تدخل منها في توجيههم.
شهد اقتراع عام 1912 انتهاكات انتخابية وقانونية جسيمة، وهو ما عرف باسم “انتخابات العصا”، لأن حزب الاتحاد والترقي استخدم الأساليب القهرية والقمعية المعادية للديمقراطية لتزوير نتيجة الانتخابات لصالحه، وتم منع الصحف المعارضة بالولايات من تناول موضوع الانتخابات على صفحاتها، وتولى رجال الشرطة جمع الذكور من سن 21 عاما فما فوق، وتولى رجال الجيش توصيل الناخبين إلى صناديق الاقتراع.
استغل الاتحاديون منابر المساجد وساحات المعاهد الدينية بوقا للدعاية الانتخابية، وفرضوا على الأئمة الترويج لمرشحي الاتحاد والترقي في خطبة الجمعة، وطلب خطباء المساجد من المصلين التصويت لصالح الحزب الحاكم بقولهم :”انتخبوا أعضاء جمعية الاتحاد والترقي المعروفين بالعلم والصلاح والتقوى”.
تدخلت المؤسسة العسكرية بقيادة أنور باشا في العملية الانتخابية، إذ شكل ميليشيات مسلحة أُطلق عليها “فرق الضبط” مهمتها حشد الناخبين للتصويت بالإكراه لمرشحي الاتحاد والترقي، لاسيما بعد أن قامت وزارة الداخلية بتسليم قوائم الناخبين وعناوينهم لفرق الضبط، وتولت الفرق تجميع الناخبين في الساحات العامة قبل ترحيلهم إلى اللجان الانتخابية، وهناك يأتي دور مندوبي الاتحاد والترقي الواقفين على الصناديق، ليتم التصويت الإجباري لصالح مرشحي الحكومة.
بلغ استهتار الاتحاد والترقي بالعملية الانتخابية أنها وكلت أعضاءها في الولايات بالدعاية نيابة عن المرشحين في إسطنبول، ويقوم الاتحاديون بمهمة حشد المواطنين للتصويت الجماعي لصالح مرشحي الاتحاد والترقي، ثم ترسل برقية للمرشح لتهنئه بالفوز بمقعد البرلمان.
استطاع حزب الاتحاد والترقي الفوز بالانتخابات بأغلبية ساحقة، إذ حصل على 98% من مقاعد مجلس “المبعوثان”، وفي المقابل حصل حزب الحرية والائتلاف على 5 مقاعد فقط.
انتخابات 1914
شهدت شوارع إسطنبول فوضى عارمة في يونيو 1912، على إثر اعتصام ميليشيات عسكرية أطلقت على نفسها “جمعية ضباط الإنقاذ”، وطالبوا باستقالة الحكومة الاتحادية، وحل مجلس “المبعوثان”، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، فاضطرت الحكومة الاتحادية إلى الاستقالة في 9 يوليو 1912، وخلفتها وزارة برئاسة أحمد مختار باشا، والذي حل مجلس “المبعوثان” في 5 أغسطس 1912، وتقرر إجراء الانتخابات في خلال 3 أشهر.
أدى نشوب حرب البلقان في نوفمبر عام 1912 إلى تأجيل انتخابات مجلس “المبعوثان”، لاسيما أن الاتحاديين استغلوا هذه الحرب لتأليب الناس ضد حزب الحرية والائتلاف، وأثاروا الفوضى في إسطنبول حتى أسقطوا حكومة أحمد مختار باشا، وشكل الاتحاديون حكومة جديدة برئاسة محمود شوكت باشا في 23 يناير 1913.
أصدر محمود شوكت باشا أمرا بإجراء انتخابات مجلس “المبعوثان” في ديسمبر 1913، وتنافس على مقاعد مجلس “المبعوثان” حزبا الاتحاد والترقي والأحرار، واستخدمت حكومة الاتحاد والترقي أساليبها المعتادة في الضغط والإكراه على الناخبين ليضمنوا فوز مرشحيهم.
تم الإعلان عن فوز حزب الاتحاد والترقي بالأغلبية الساحقة في البرلمان في 4 يناير 1914، إذ فاز بعدد 280 نائبا مقابل نائب واحد من حزب الأحرار.
القضية قضية الشعب الأرمني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.