حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يضع المجتمع الدولي في أولويات جدول أعماله ضرورة إدانة جرائم الإبادة الجماعية – كجريمة خطيرة ضد الإنسانية- ، وإعلان قانونٍ والمعاقبة عليه.
بالرغم من أنه في أوائل القرن 19، وفي السباق الاستعماري المحموم التي تخللها إبادات جماعية في محاولة للسيطرة على شعوب العالم القديم من قبل القوى الكبرى في أوروبا، فإن الوثائق الأساسية للقانون الدولي لم تضم حتى كلمة واحدة تدين الإبادة الجماعية، ولم تكن كلمة الإبادة العرقية (Genocide) قيد التداول.
تم تعريف وإدانة الإبادة العرقية كأسوأ جريمة ضد الإنسانية في 11 ديسمبر / كانون الأول قبل 71 عاما، عندما أدرجت منظمة الأمم المتحدة المحدثة إدان الإبادة العرقية ضمن جدول أعمال الهيئة العامة واعتمدت بقرار رقم 96/1. وقد شكل هذا القرار في حجر أساس في تاريخ القانون الدولي، لكافة الوثائق الدولية اللاحقة التي تدين وتجرم و تعاقب الإبادة الجماعية باعتبارها جريمة كبرى وتحد منها ، ولا سيما إتفاقية الإبادة العرقية في 10 ديسمبر 1948، التي وافقت عليها الهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة.
ويذكرنا التاريخ بأن مشروع القرار 96/1 الذي اعتمد في 11 ديسمبر 1946، أعده وقدمه المحامي البولندي الدولي رافائيل ليمكين، الذي يعتبر الأب والمدافع الحقيقي عن مصطلح الإبادة العرقية القانوني.
ولد رافائيل ليمكين (1900-1959) في بيسفوني، بولندا (بالقرب من فولكوفسكي الحالية، في بيلاروسيا)، في 24 حزيران 1900. وفي سن ال 14، كان ليمكين متمكنا من 14 لغة، بما في ذلك الفرنسية والإسبانية والروسية. بعد تخرجه من مدرسة بياليتيسك للتعليم المهني، كرس نفسه لدراسة علم اللغة. منذ تلك الوقت كان لديه اهتمام خاص لتحديد وتوصيف تلك الجرائم التي تم إختصارها بمصطلح الإبادة العرقية (Genocide).
الجدير بالذكر أن ليمكين بدأ تحقيقه القانوني بدراسة المذابح التي لم يسبق لها مثيل لمئات الآلاف من الأرمن من قبل الأتراك. المشكلة الرئيسية التي واجهت ليمكين هي عدم وجود قانون دولي يجرم المسؤولين الأتراك الذين اتخذوا قرارا بقتل أمة بأسرها وأمروا بالقيام بأكبر جريمة ضد أمة.
نقطة تحول في حياة المحامي الشاب الذي تم نقله إلى ألمانيا لمتابعة تعليمه العالي وتم قبوله بجامعة بريتني هي عام 1921 عندما قام صوغومون تهليريان بقتل الرإس المدبر للإبادة العرقية الأرمنية طلعت باشا في برلين. حيث حضر محاكمة تهليريان كمستشار قانوني، فقام ليمكين بدراسة الأسباب التي دفعت إلى قتل طلعت ثم قام بإعداد بيان مفصل عن المذابح التي ارتكبها طلعت باشا، وتوصل ليمكين إلى نتيجة مريرة بأنه لا يوجد أي قانون دولي حتى ذلك الوقت، يقوم بإدانة مرتكبي هذه الجريمة.
ووفقا للأدلة، فإن إفلات مرتكبي الإبادة العرقية الأتراك من العقاب دعا ليمكين إلى إجراء مناقشة مع أحد محاضريه. يكتب ليمكين “لماذا قتل شخص واحد سبب كاف لدفع المجرم إلى المحكمة؟ “. و يتسائل ليمكين – في حين أن الشخص الذي قام بقتل مليون شخص بعيد عن المحاكمة. أجابه المحاضر بمثال عن حياة مزارع سيذبح كل دجاجاته. لأنه وبحسب المحاضر تعود ملكية الدجاج إلى المزارع ولا يحق لجاره تقديم شكوى بما حدث”.
عن هذه المحاضرات تحدث عن ليمكين في وقت لاحق كاتبا:” … ناقشت هذه المسألة مع المحاضرين. وأشاروا إلى سيادة الدول. لكن سيادة الدول “رديت” تتعلق وبشكل مستقل بوضع السياسات الداخلية والخارجية وبناء المدارس والطرق بكلمة واحدة لتأمين رفاهية الشعب. إن السيادة لا تعني قتل الملايين من الأبرياء “.
وأثناء التعمق في إحدى دراساته المكثفة التي نشرت في عام 1933، وصف ليمكين مثل هذه المجازر بأنها “جرائم ضد القانون الدولي”إلا ان أبحاث ليمكين تعثرت عندما ذهب إلى الجيش في عام 1939 للمشاركة في الحرب الألمانية ـ البولندية. وعندما استولى الجيش النازي الألماني على بولندا، هرب ليمكين إلى الولايات المتحدة، وترك والديه في بولندا. وفي الولايات المتحدة، عمل كمستشار في محاكمات نورمبرغ، ولكن هذه المرة كطرف متضرر بالفعل، إذ قتل والديه في معسكرات الاعتقال النازية (concentration camps) كضحايا المحرقة ضد اليهود .
في كتابه “حكم المحور في أوروبا المحتلة”، الذي نشر في عام 1944، استخدم ليمكين كلمة إبادة العرقية للمرة الأولى، وعرفها بأنها ” الفظائع والمذابح التي تستهدف ، إبادة أمة بأكملها أو قبيلة بأكملها”. ألف ليمكين كلمة (Genocide عن طريق جمع كلمة (Gen) (العرق) “اليونانية” و كلمة (Cide) (قتل) “اللاتينية”
بنضال شرس ومتواصل من أجل إدانة الإبادة العرقية نجح ليمكين في نهاية المطاف في عام 1946 في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر / كانون الأول، بإدراج مشروع قرار على جدول الأعمال اللذي تم تبنيه بالإجماع بأن محكمة العدل الدوليةمقرا بذلك بأن الإبادة العرقية جريمة ، ويعاقب بإدانته معلنا أول قانون دولي.
قانون الأمم المتحدة هذا كان ناقصا ومن الضروري إكمال القرار الأول بحيث يشمل الوقاية من الإبادة العرقية ومعاقبة المجرمين.
توج عمل ليمكين في 10 ديسمبر 1948، عندما اعتمدت الأمم المتحدة وأعلنت ميثاق الإبادة العرقية.
وبالرغم من أن ميثاق الأمم المتحدة لم تصدق عليه جميع الدول يوم ذاك، وحتى الآن، توجد حتى الآن دول كبرى لم تصدق بعد على الميثاق ، ورغم استخدام المعايير المزدوجة فإنها تشعر بأنها ملزمة بالإدانة في حالات بعض الابادة العرقية…
إن جرائم الإبادة العرقية التي لم يسبق لها مثيل، مثل الإبادة العرقية التي ارتكبتها الدولة التركية ضد الشعب الأرمني، هي مصدر للتشجيع والإفلات من العقاب في عمليات الإبادة الجماعية الجديدة.
لقد حان الوقت لمنظمة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لاتخاذ الخطوة التالية والمعاقبة بالقانون لإنكار الإبادة العرقية من قبل ما يسمى دول الإبادة العرقية (مثل تركيا).
القضية قضية الشعب الأرمني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.