كتب: خالد أبو هريرة![]()
قبل أن يقتل النازيون في ألمانيا نحو مليون ومائة ألف من اليهود داخل غرف الغاز الشهيرة بمعسكرات الاعتقال باستخدام مادة سيانيد الهيدروجين (1942 – 1945)، كان الأتراك قد سبقوهم إلى استخدام الغازات السامة لإبادة الأرمن والأكراد، في أحداث الإبادة الأرمنية العام 1915، ثم في مذبحة درسيم ضد الثورة الكردية العام 1937.
يسعى التقرير التالي إلى سرد حكاية تلك الأسبقية التركية..
إبادة الأرمن
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى العام 1914 واشتراك الدولة العثمانية فيها، انتهج زعماء إسطنبول من جمعية الاتحاد والترقي (تركيا الفتاة) سياسة عدائية واضحة ضد الأرمن في شرق الأناضول، بعد أن رفضوا التعاون مع الجيش العثماني ضد روسيا القيصرية في جنوب القوقاز.
وفي فبراير 1915، أُتخذ قرار إبادة الأرمن من قبل حكومة الباشوات الثلاثة (أنور، طلعت، جمال) خوفًا من تعاونهم مع الروس، حال أقدم الأخيرون على غزو الأناضول. وفي مساء يوم الأحد 24 أبريل 1915، اقتيد أكثر من مائتي مثقف أرمني من منازلهم في إسطنبول وقتلوا لاحقا في أنقرة. وابتداءً من مايو 1915، خرجت الأوامر الصريحة إلى ولاة شرق الأناضول بضرورة البدء في ترحيل الأرمن قسرًا بعيدًا عن مساكنهم التاريخية، واشتملت خريطة التطهير العرقي على مدن أرضروم، بتليس، وان، ديار بكر، طرابزون، سيواس، خربوط.
وخلال الفترة الممتدة بين مايو ويوليو 1915، كان 1,200,000 نسمة من الأرمن – من أصل نحو 2 مليون أرمني يمثلون مجموع الشعب الأرمني في الأناضول العثماني – قد اختفوا تمامًا، دون الظهور في منفاهم المقرر بصحراء دير الزور بسوريا حاليًا. الأمر الذي أكد للجميع أن كل هؤلاء قتلوا على يد السلطات العثمانية المشرفة على عملية الإبادة الجماعية.
تنوعت وسائل القتل التركية للأرمن، فهناك الكثيرين ممن ماتوا في الظروف الرهيبة التي أحاطت بمسيرات النفي نفسها، حيث قلة الأقوات والسير على الأقدام لنحو ألف كيلومتر كاملة. كما أنه هناك كذلك من قتلوا داخل قراهم قبل تنفيذ أمر النفي فيهم، واعترافات الضباط الأتراك أمام المحكمة التي شكلها البريطانيون في إسطنبول العام 1919، أي بعد إعلان هزيمة العثمانيين في الحرب، تشير إلى أن السلطات العثمانية استخدمت في كثير من الأحيان، وسائل متنوعة لإبادة الأرمن، مثل حرق الضحايا أحياء، أو إصابتهم جماعيا بمرض التيفوس، أو تعريضهم للغازات السامة. والأخيرة هي ما تعنينا هنا.
ففي إحدى جلسات تلك المحاكمات، اعترف كلا من الدكتور ضياء فؤاد والدكتور عدنان، من إدارة الخدمات الطبية العثمانية العامة في مدينة طرابزون، بأنهم اشتركوا في جمع أطفال الأرمن من المدينة داخل مدرستين، ثم قتلهم داخلها بالغاز السام. ويلاحظ أن الأتراك لم يستخدموا الغازات السامة سوى ضد الأرمن فحسب. أما على مستوى المعارك الحربية الشرسة التي خاضوها على الجبهة القوقازية ضد الروس، أو على الجبهة الشرقية في العالم العربي ضد الإنجليز، فإن العثمانيين كانوا في الحقيقة هم ضحايا الحرب الكيماوية التي شنتها القوات البريطانية ضدهم أثناء معركة غزة الثانية في فلسطين (أبريل 1917).
مذبحة درسيم
أما الأكراد، فقد مثلوا بعد إبادة الأرمن واليونان في أرجاء الأناضول، المشكلة الإثنية العويصة لتركيا بعد الحرب العالمية الأولى. وذلك بعد أن رفضت القوى الكبرى منح القومية الكردية دولة خاصة بها في أماكن انتشارها الديموغرافي بـ شرق تركيا وشمال سوريا وشمال العراق وشمال غربي إيران، وهو ما أدى بالغالبية العظمى من الأكراد إلى الوقوع تحت سلطة الجمهورية التركية، والتي أسست على أنقاض السلطنة العثمانية العام 1923.
لعلاج الأمر، بدأت تركيا مبكرًا باستخدام القوة العسكرية لإخماد الطموحات الكردية نحو الانفصال. وكانت البداية في العشرينيات عندما نفذت عمليات حربية واسعة ضد تمركزات الثوار الأكراد في محافظات كينجو و درسيم جنوب شرق الأناضول.
ثم في العام 1934، أصدرت حكومة مصطفى كمال أتاتورك قانون إعادة التوطين رقم 2510 (بالتركية: إسكان قانونو)، والذي فرض عمليات إعادة التوطين الجبرية على المواطنين في تركيا. وكان المقصود بالطبع إبعاد الأكراد تحديدًا عن مناطق نفوذهم، وتشتيتهم ديموغرافيًا بين مقاطعات تركيا الأخرى. وبدءًا من عام 1935، اعتبرت مقاطعة درسيم، التي كان أغلب سكانها من الأكراد العلويين، أول مستهدف بالقانون الجديد، حيث غير اسمها من درسيم إلى تونجلي (وفقا لقانون رقم 2884 الصادر في 25 ديسمبر 1935) لمحو هويتها الكردية، كما بدأ اختيار المقاطعات المزمع نقل أهل درسيم إليها.
وفي عام 1936، أمر أتاتورك بإقامة قواعد عسكرية في شرق تركيا تكون مهمتها إنفاذ القانون 2510. وقام الأكراد في درسيم ردًا على ذلك بعقد اجتماع موسع انتهى إلى كتابتهم خطاب اعتراض على محتوى القانون. ووفقا للمصادر الكردية، فإن حاملي الرسالة تم القبض عليهم من قبل السلطات التركية، وإعدامهم عند تسليم الرسالة في يناير 1937. الأمر الذي أشعل الثورة في صفوف الأكراد.
بدأ الأكراد ثورتهم بالهجوم على دورية بوليس تركية مرت بدرسيم. ثم قامت القبائل الكردية بتدمير الجسر الرابط بين منطقتي باه وكاهموت في قرية هارجيك. وهو ما رد عليه الجيش التركي بالإعلان عن عملية عسكرية موسعة في درسيم أشرك فيها 25 ألف جندي.
ولما تبين للثوار الأكراد أن إمكانياتهم أقل من مجابهة العملية التركية المزودة بأحدث الأسلحة في ذلك الوقت، بدأوا في الركون إلى طلب الهدنة. ولكن أصبح من الواضح أن أنقرة قد اتخذت قرارها بسحق الثورة، وتهجير المدنيين من درسيم قسرًا. فعندما ذهب سيد رضا، أحد قادة الثورة إلى مبنى محافظة أرزنجان لطلب السلام في سبتمبر 1937، قامت السلطات بالقبض عليه وإعدامه شنقا في اليوم التالي مع 6 من أبناء قبيلته.
هكذا فرض على الأكراد القتال حتى النهاية. الأمر الذي دفع الجيش التركي إلى إنزال ضعف القوات الموجودة بالمنطقة. كما قادت صبيحة أتاتورك، ابنة مصطفى كمال بالتبني، وأول امرأة تعمل كطيار مقاتل في التاريخ، حملة موسعة بالطائرات لقصف درسيم بالقنابل من الجو.
وخلال المرحلة الأخيرة من إخماد الثورة، والتي أطلقها رئيس وزراء تركيا الجديد جلال بيار – خليفة أتاتورك – بين شهري يناير ديسمبر من العام 1938، أضيف الغاز السام «زيكلون ب»، وهو الاسم التجاري لسيانيد الهيدروجين، على قائمة القذائف التي ألقيت فوق رؤوس الأكراد في درسيم. ورغم نفي صبيحة أتاتورك في مذكراتها استخدام الغاز السام لقتل الأكراد، فثمة رسالة مهمة توثق ذلك لرئيس الوزراء التركي رفيق إبراهيم سيدام (1939 – 1942) بتاريخ 19 فبراير 1942، أي بعد 4 سنوات فقط من وقوع الأحداث المروعة في درسيم، كتب فيها نصًا: «بصفتي طبيب (كان رفيق سيدام طبيبًا عسكريًا منذ العصر العثماني الأخير)، أعلن أنني ضد استخدام الغازات الحارقة والخانقة، حتى ضد جنود الأعداء. وأنا أجهز لقانون يحظر استخدام الغازات التي استعين بها في تونجلي (درسيم) مرة أخرى».
إضافة إلى ما سبق، فإن الباحث الكردي المقيم في هولندا بورا تشيليك، وال`ي كان قد ولد ونشأ في درسيم، ذهب إلى أن القوات التركية المشاركة في المذبحة، والتي بلغت حصيلتها النهائية وفقًا لبيان الجيش التركي 13 ألف و160 قتيل، ربما استخدمت غازًا سامًا آخر لقتل النساء والأطفال الذين اختاروا الاختباء داخل الكهوف الجبلية في المدينة، وذلك بتعريضهم للغاز بعد إغلاق مداخل تلك الكهوف عليهم.
القضية قضية الشعب الأرمني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.