طوى اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه الجانبان الأرميني والأذري برعاية روسية فجر الثلثاء الماضي، المرحلة الثالثة من الحرب بين البلدين معلناً هذه المرة انتصار باكو، بعد إقرار انتصار أرمينيا في الهدنة الأولى عام 1994، وترسيخ حالة الأمر الواقع في الثانية عام 2016. فيما يتشارك الجميع بالنتيجة ذاتها المتمثلة بعدم الوصول إلى حل نهائي للأزمة التي مضى على اندلاعها أكثر من 32 عاماً.
اعتُبر الاتفاق في توقيته ومضمونه “مفاجئاً” بالنسبة إلى العديد من المتابعين، خصوصاً الأرمن، ودليلاً على التحول الجذري في سير “الصراع الإثني” برأي المجتمع الدولي، والوطني بالنسبة إلى أذربيجان والوجودي بالتوصيف الأرميني، والذي جاء أصلاً كنتيجة لتغيّر التموضعات الجيوسياسية في القوقاز في شكل خاص والإقليم عموماً.
روسيا المحايدة وإيران الحذرة
منذ انطلاق شرارة الحرب في 27 أيلول (سبتمبر)، اعتمدت وسائل الإعلام والمحللون السياسيون على فرضية التحالفات التقليدية في شرح الحوادث وتوقع مآل الصراع “بين أرمينيا المدعومة من موسكو في شكل صريح ومباشر، وطهران من خلف الكواليس، وأذربيجان المدعومة تركياً”، كتكرار لمشهد التحالفات في الحرب الأولى التي انتهت بانتصار ساحق لأرمينيا عبر سيطرتها على ناغورنو كراباخ (أرتساخ باسمه الأرمني) ومساحات كبيرة من الأراضي الواقعة خارج حدود الإقليم، مع تحديث بسيط مبني على توقعات “لميول غربية وأميركية إلى الموقف الأرميني بناء على نهج الانفتاح على الغرب الذي اتبعه رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان” بعد تسلمه منصبه غداة “ثورة برتقالية” قبل عامين ونصف العام في بلد ذي نظام الحكم البرلماني.
لكن الأيام اللاحقة وصولاً إلى العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، أي عند التوقيع على الاتفاق، أثبتت عدم صحة خريطة التحالفات “البالية” تلك. بقيت روسيا على موقفها “المحايد” واستمرت في تأدية دور الوسيط في الأزمة، وأكدت إيران ضرورة استرجاع أذربيجان للأراضي المحتلة، وإن تكن شددت على الحل السلمي عبر المفاوضات، في موقف أقرب إلى “الدبلوماسية المثالية”، فيما اكتفى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المنشغل بأزمة رسوم “شارلي إيبدو” وتصريحاته التي أعقبتها أعمال إرهابية في فرنسا وأوروبا، ببيانات الدعم والمساندة لأرمينيا، شأنه شأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب المنشغل بالانتخابات.
أما على الجانب الآخر، فإن الدعم التركي لأذربيجان ظهر في شكل واضح ومباشر أكثر من قبل، عبر الجنود على الأرض وطائرات الـ “أف-16” ومسيّرات بيرقدار من الجيل الخامس في الجو، إضافة إلى عنصر المفاجأة الآخر بالنسبة إلى أرمينيا، والمتمثل بنقل المرتزقة من مناطق سيطرة أنقرة في شمال سوريا.
في تصريح لـ “النهار العربي” رأى الصحافي محمد محسن، الذي غطّى جزءاً من المعارك في إقليم ناغورنو كراباخ، أن الحياد الروسي “ناتج من التبدل الذي طرأ منذ استعادة روسيا دورها في المنطقة. ورأت موسكو أن انحيازها لطرف ضد آخر قد يستدرج انحياز دول أخرى إلى جانب أذربيجان وهذا لا يناسب روسيا ودورها، الذي يعتمد على أن تكون الضامن لأي ستاتيكو في المنطقة، ومصلحتها مع كل الأطراف وليس مع طرف ضد آخر”.
وأضاف محسن: “هناك تحسن طرأ على العلاقات الروسية – التركية، وتمثّل ذلك ببيع منظومة صواريخ أس-400 لتركيا، كما تسعى روسيا للحفاظ على تركيا المتنافرة مع حلف الناتو، اضافة إلى المصالح الروسية – التركية في سوريا، وبالتالي فإن أي موقف موضوعي أو وسطي من أزمة كراباخ يفيد هذا السعي، وفي المقابل فإن وقوفها إلى جانب أرمينيا في شكل واضح وفج سيؤدي إلى تراجع هذه العلاقات ما قد ينعكس بنتائج سلبية على صراعات أخرى في مناطق أخرى”.
وشدد محسن على المصالح الروسية – الأذرية عبر “الاتفاق المتقدم جداً” بين البلدين في مؤتمر الدول المشاطئة لبحر قزوين عام 2018، والقاضي بمنع أي نفوذ أجنبي في هذه المساحة المائية ومحيطها الغني بموارد الطاقة، وهو ما التزمت به أذربيجان، “وبالتالي فإن أي موقف روسي معادٍ لأذربيجان في قضية ناغورنو كراباخ كان سيؤثر في الاستقرار الذي وجد في بحر قزوين في السنتين الأخيرتين”، وقد يحرمها أيضاً من الاستفادة من هذه المنطقة التي لها مستقبل مهم ومن مواردها.
وكشف محسن، الذي تابع أيضاً المسار السياسي للأزمة في أرمينيا خلال الأسابيع الماضية، عن “كلام سمعه في يريفان حول توجس روسي من الحكم الأرميني منذ 2018، وميوله نحو الغرب، وهو معطى لا يناسب الروس”، لذلك كانت هناك رسالة روسية أيضاً من خلال هذا الموقف مفادها أن “الغرب لا يمكن أن يحمي أرمينيا، وإن التحالف مع موسكو هو الوحيد الضامن الوحيد لأمن يريفان”.
وافق محسن في الرأي الأكاديمي الأرميني، هاغوب مقديس، المحاضر في “أكاديمية الإدارة العامة في جمهورية أرمينيا”، والذي رأى أن “الموقف الروسي المحايد مرده أسباب عدة من بينها الرد على رغبة حكومة باشينيان في الانفتاح على الغرب والتقرب بعلاقاتها أكثر من أوروبا والولايات المتحدة، والمصالح الاقتصادية الروسية مع باكو خصوصاً في ما يتعلق بخطوط نقل الغاز، والتغيّر في السياسة الروسية في شكل عام”.
أما عن الموقف الإيراني، فقد رأى محسن أن “لإيران أسبابها بأن تبقى وسيطة بين أرمينيا وأذربيجان، منها النسبة الكبيرة للقومية الأذرية داخل المجتمع الإيراني وبالتالي فهي ملزمة على الأخذ بالاعتبار هواجس تلك القومية من أي موقف إيراني منحاز لأرمينيا”.
واختصر محسن الموف الإيراني بالقول: “جربت إيران أن تمارس دوراً لا يؤدي إلى خسارة أرمينيا، التي ترتبط معها بشبكة مصالح مشتركة، مع الحرص على تفادي أي توتر داخلي أخذة في الاعتبار عامل التواجد الإسرائيلي في أذربيجان، لذا فقد حاولت مسك العصا من المنتصف”.
ورأى محسن أنه “لا يمكن إيران أن تمارس الدور الذي تتولاه روسيا، فهي رغم محاولاتها، لا يمكن أن تكون وسيطاً بين أذربيجان وأرمينيا وذلك لأسباب عدة أهمها: وجود مجموعة مينسك المكونة من الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وهي دول ذات نفوذ أقوى منها، وتدخل روسيا في الأزمة بثقل كبير، والموقف التركي الداعم لأذربيجان وبالتالي طهران ليست في وارد الوقوع في مشكلة مع تركيا، أحد متنفساتها الوحيد ضد العقوبات الأميركية، لذا فهي معنية بالحفاظ على موقف أقرب لتركيا منها لأرمينيا في الفترة الحالية”.
وبحسب محسن، فإن هذا الاتفاق “بما يعنيه من انتصار أذري مسبوق بموقف إيراني داعم لباكو يريح إيران من ناحية ضمان عدم تفاقم المعركة والاشتباك العسكري في هذه المنطقة، وبالتالي ابتعاد فرضية تمدد الحرب إلى الداخل الإيراني، وقيام الديموغرافيا الأذرية داخل إيران بالانتفاض أو الاعتراض ضد الدولة، ولكنه يقلق إيران من ناحية تحول روسيا إلى الضامن الأساسي للاستقرار في المنطقة وتراجع الدور الإيراني إلى ما بعد الدور الروسي والتركي، إضافة إلى تمدد أذربيجان في جغرافية جديدة أوسع على الحدود الإيرانية وما يعني ذلك من موطئ قدم جديد لإسرائيل للتجسس عليها”.
حسابات الفوز والخسارة
لا شك في أن أذربيجان هي الرابح الأكبر من هذا الاتفاق، فهي من جهة استعادت السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي، واستطاعت الربط بين “الوطن الأم” وإقليم ناخيتشيفان ذات الحكم الذاتي، إضافة إلى تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع أنقرة. كما أن هذا الانتصار سيريح الرئيس الأذربيجاني الهام علييف ولو لفترة قصيرة من الضغوط الداخلية والتظاهرات المطالبة باستقالته، وهو الذي ورث الحكم، الذي يمارسه بطريقة عائلية بمشاركة زوجته وأولاده، عن أبيه.
في المقابل، يمكن اعتبار أرمينيا الخاسر الأكبر من الاتفاق، فهي إضافة إلى خسارتها “لأراضيها التاريخية”، وروح الانتصار الذي لازم شعبها طوال السنوات الثلاثين الماضية، وتداعيات تبعات الحرب على اقتصادها الهش، دخلت في أزمة استقرار في الداخل، الذي انتفض ضد رئيس الوزراء “الخائن” بحسب فئة كبيرة من الشعب، مقابل فئة أخرى مدافعة عن باشينيان وخياره.
أما على مستوى الجيران، فإن السيناريو الأمل بالنسبة إلى إيران في حل قضية ناغورنو كراباخ كان عبر طاولة مفاوضات تتواجد حولها مع كل من طرفي الصراع وروسيا، أكثر من أن تكون دولة مهنئة لجيرانها، لكن تسوية النزاع بجهود إقليمية من دون تدخل واشنطن، حتى وإن لم تكن هي طرفاً في صياغتها، تعتبرها إيران ربحاً أهم من خسارتها لعائدات الترانزيت بين إقليم ناخيتشيفان الأذربيجاني ذات الحكم الذاتي وأذربيجان، بعد فتح معبر عبر جنوب أرمينيا يربط بين الطرفين كما نص عليه الاتفاق الأخير.
وتبدو تركيا رابحة أيضاً من خلال كسب طريق بري يربط أنقرة بباكو عبر ناخيتشيفان ومنها إلى العمق الآسيوي في الدول ذات الشعوب من أصول تركية، ما يعني تقوية أردوغان صاحب الخطاب القومي التركي داخلياً، وتأمين أول انتصار عسكري له مقابل انتكاساته الدبلوماسية والميدانية في كل من ليبيا وسوريا وشرق المتوسط. ولا ننسى الدعاية التي حظيت بها المسيرات التركية، بفضل فاعليتها في الحرب الأخيرة ضد الأهداف الأرمينية.
ويمكن اعتبار روسيا أكبر الرابحين الإقليميين، حيث تمكنت من إلغاء أي فرضية في المستقبل لتواجد قوات غربية جنوب القوقاز، التي تربط كلاً من إيران وتركيا بآسيا الوسطى، وغدت الجهة المشرفة على إمدادات الطاقة من بحر قزوين بفضل قواتها العسكرية المنتشرة في المنطقة، إضافة إلى إبعاد أذربيجان وأرمينيا عن الغرب كضمانة لعدم تعرض أي منهما لخسائر مستقبلية.
الوسومآرتساخ أذربيجان أرمينيا إيران تركيا روسيا
شاهد أيضاً
يريفان في 28 يوليو/أرمنبريس: قالت وزارة الدفاع الأرمينية في بيان إن الوحدات العسكرية الأذربيجانية التي هاجمت …
مرة أخرى يتحدث إلهام علييف على التلفزيون الحكومي الأذربيجاني عن قصة قد تخيلها حيث كرر …
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.