في الذكرى 105 للإبادة الجماعية الأرمنية قام موقع الحرمون بطرح عددا من الأسئلة على صفحتها حول موضوع الإبادة الجماعية الأرمنية للتتلقى الأجوبة من المثقفين والسياسيين والمؤرخين ….
موقع القضية إذ يشكر العاملين في موقع الحرمون على مبادرتهم فإنه سيقوم بنشر الأجوبة التي نشرها موقع الحرمون تباعا.
للإضطلاع على الأسئلة يرجى زيارة موقع الحرمون .
المؤرخ اللبنانيّ الدكتور صالح زهر الدين عن مجازر الإبادة الأرمنيّة في ذكراها الـ 105 : والشعب العظيم لا يمكن أنّ ينتهي بمجزرة وتحرّك الداخل الثقافيّ التركيّ جوهريّ للعدالة.
وردّ القامّة العلميّة التي قدّمت للقضيّة الأرمنيّة ما يزيد عن 20 مؤلفاً واستحقّ التكريم من مراكز مرموقة ومن دول، منها الدولة الأرمينيّة، المؤرخ اللبنانيّ الدكتور صالح زهر الدين على أسئلة ملف السبت 8 من حرمون، حول المجازر العثمانية الطورانية بحق أهلنا الأرمن والسريان والإسماعيليين، بمداخلة قيّمة جاء فيها:
في مطلع القرن العشرين، وتحديداً منذ الرابع والعشرين من نيسان 1915، قام قادة جمعية الاتحاد والترقي بارتكاب أول وأكبر جريمة إبادية في القرن العشرين بحق الشعب الأرمنيّ… الذي كان يطلق عليه في السلطنة العثمانية لقب “الملّة الصادقة”. كما كان للحركة الصهيونيّة دور كبير في التحريض على جريمة الإبادة هذه، وإلباسها ثوباً إسلامياً، لتغدو القضية وكأنها صراع إسلامي – مسيحي في السلطنة، بعد أنّ تفوقّ الأرمن في مختلف نواحي الحياة العثمانية وميادينها، كمنافسين أقوياء لليهود، الذين يُطلقون على أنفسهم لقب “شعب الله المختار”، ولا يقبلون مطلقاً أنّ يتفوّق عليهم أحد في هذا المضمار…
والجدير بالذكر، أنّ أكثر من مليون ونصف المليون أرمني سقطوا من جرّاء هذه الإبادة، في الوقت الذي تحجّج فيه الاتحاديون العثمانيون بأن الأرمن ناصروا الجيوش الروسية أثناء حربهم مع الجيش العثماني، لا سيّما في المناطق المحاذية لروسيا… لكن مخطط الإبادة كان سابقاً على هذه الحرب… وإنّ كانت هذه المزاعم صحيحة، فليس هناك من مبرّر على الإطلاق أنّ تُشنّ حرب إبادة منظمة ومبرمجة بدقة على أرمن السلطنة واقتلاعهم من جذورهم، كمقدّمة لشطبهم من التاريخ والجغرافيا معاً.
ولا يزال النظام التركي وحكوماته المتعاقبة منذ قيام الجمهورية التركية (عام 1923) حتى اليوم، ينكرون هذه الإبادة، كما يرفضون الاعتراف بوقوعها، بما يترتب عليها من تداعيات…
هذا، وتمثّل جريمة الإبادة الأرمنية جريمة العصر، وكل العصور اللاحقة، باعتبارها “أمّ الجرائم” ضد الإنسانية. وقد ظنّ المجرمون الاتحاديون الطورانيون أنّ هذه المجازر المنظمة ضد الشعب الأرمني في الربع الأول من القرن العشرين، هي عملية شطب لهذا الشعب من التاريخ والجغرافيا والمستقبل… إلا أنّ ظنّهم قد خاب، وحساب الحقل لم يطابق حساب البيدر عندهم… وعلى هذا الأساس، فقد قدّر لهذه القضية أنّ تدخل التاريخ وتخرج من الجغرافيا نحو المستقبل… ولن تستطيع أيّة قوّة أنّ تُخرجها من التاريخ وتُعيدها إلى شرنقتها الجغرافية… لأنها لم تعُدْ “كرة أطفال” ولا “كرة قدم” ولا “كرة سلّة”، بل أصبحت بحجم “الكرة الأرضية” كلها… والشعب الذي أريد له الإبادة، خرج كالمارد من القمقم، وكأنه “طائر الفينيق” الذي خلقه الله خصيصاً للأرمن من دون غيرهم من شعوب الأرض… لأن شعباً من هذه الطينة، وجد ليحيا، لا ليموت. والموت لا يليق به، باعتباره إبن الحياة الحرّة الكريمة، وهو جدير بها… وفي اللحظة التي يموت فيها الضمير، تقع الجرائم والإبادات، وتكثر المجازر… وهذا ما حصل، ولا يزال يحصل… ولكن يبقى أنّ أفظع من الجريمة، أنّ تتنكّر للجريمة نفسها… وبعد ذلك، أيّ سلام يمكن أنّ يقوم بين أحفاد الجناة وأحفاد الضحايا؟ وهل هناك سلام بدون عدالة؟ فالقاتل قاتل، والضحيّة ضحيّة، مهما مرّت الأيام وتعاقبت السنون… وهنا يحسن بأي ضمير أنّ يصرخ بصمت أو بصوت عالٍ: كلنا أرمن. (مثلما جرى إثر عملية اغتيال الصحافي هرانت دينك في تركيا)… نقول ذلك، لأن جريمة إبادية من هذا النوع، نفذها مجرمو جمعية الاتحاد والترقّي، بمشاركة دولية مباشرة أو غير مباشرة، وصمت أو تفرّج أو لا مبالاة، على ذبح شعب بهذه الوحشية، عرفت طمساً غريباً – لسنوات – لم تشهده أية قضية قبلها ولا بعدها، بهذا الحجم…
وبطبيعة الحال، لم تكن هذه الجريمة الإبادية “نزعة شخصية” ولا “مزاجية فردية”، بل كانت نتيجة مخطط منظّم ومبرمج ومدروس بدقّة وبعناية فائقة، بغية استئصال الشعب الأرمنيّ والاسم الأرمني من الوجود – كما صرّح طلعت باشا وغيره… وليس من الغرابة أنّ يبدأ المخطط بإعدام النخبة الواعية والمثقفة والقائدة للشعب الأرمني، لكي يغدو هذا الشعب بمثابة “جسد بلا رأس” وبلا عقل ولا قيادة… على أيدي مجرمين محترفين و”تشكيلات خاصة”…
إضافة لذلك، فقد حاول المجرمون الاتحاديون الطورانيون أنّ يبرهنوا للعالم أنّ هذه الإبادة هي بمثابة حرب بين المسلمين والمسيحيين، وكأنهم ارتكبوها باسم الدين الإسلامي، لكن الإسلام والمسلمين براء منهم ومن أعمالهم. لأن الإسلام الحقيقيّ هو الذي حمى الأرمن وقدّم لهم كل وسائل العيش والحياة والطمأنينة… وفي الوقت الذي كان يُذبح فيه الأرمن إلى جانب الجوامع التركية، كانوا يُستقبلون بالترحاب إلى جانب الجوامع العربية… وبالنظر إلى عدالة هذه القضية وإنسانيتها، تزايد الالتفاف حولها، وبدأت المطالبة بإنصاف الشعب الأرمني وإحقاق الحق… وليست اعترافات الدول وبرلماناتها ومجالسها إلاّ نتيجة ذلك…
ومع ذلك، لا تزال تركيا (الحكومة والنظام) تُصّر على الإنكار وعدم الاعتراف، الذي هو إهانة للتاريخ والعدالة… وهذا ما يدفعنا إلى تشجيع المثقفين الأتراك في الداخل التركي، لرصّ صفوفهم وتوحيد كلمتهم وإعلاء صوتهم بوجه النظام الحاكم، حتى يصبحوا قوة يُحسَب حسابها، ويؤخذ برأيها وموقفها على هذا الصعيد، باعتبار أن المجزرة الإبادية وقعت في الداخل التركي، وعلى الأرض التركية… ومن هذا الداخل، وعلى هذه الأرض، يجب التحرّك الفعلي – مع احترامنا للخارج وتحركاته -. وبدون إحداث هذه “القفزة النوعية” والاهتمام الجدّي بالشعب التركي وتحريك ذاكرته بوقائع حسيّة ملموسة، يصعب الوصول إلى نتائج مُرضية… وفعلاً لقد بدأ المثقفون الأتراك بكسر حاجز الخوف في هذا الإطار… و”تغيير الداخل” من “الداخل” مهم جداً.
خلاصة القول، إنّ العظيم لا ينتهي بمأتم، ولو مشت الآلاف في جنازته… والشعب العظيم لا يمكن أنّ ينتهي بمجزرة… تلك هي المسألة… لأن حق الذاكرة من أهم الحقوق في الحياة. ويجب عدم الصمت.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.