تبنى القوميون الأتراك شعارات الإخاء والمساواة بين الأعراق التي تتكون منها الدولة العثمانية، بهدف كسب دعم وتأييد نخب تلك الأقليات، عندما اضمحلت دولتهم، تحت حكم سلاطين آل عثمان، وصارت مطمعا للقوي الغربية، ما يعني أنها كانت دعوة مسمومة، قامت على الغدر والخيانة للشعوب الواقعة تحت الاحتلال العثماني.
اتحد الجميع حول شعار الإخاء والحرية، من أجل إسقاط السلطان المستبد عبد الحميد، وتكللت تلك الجهود بالنجاح عام 1908، كما شهد ذلك العام سقوط قناع الإخاء والود الذي اختبأ وراءه قادة التيار القومي التركي، لإخفاء عنصريتهم وكراهيتهم لشعوب العرب والأرمن واليونانيين والبلغار والأكراد.
حلم الوحدة بين الأعراق المتعددة أصبح سرابا، وانفرد الأتراك بالحكم دون شركاء الكفاح والنضال، وحلت دعوة القومية التركية بدل الإخاء، وبدأت عملية التتريك القسرية، وما تبعها من مذابح بحق الشعوب المحتلة.
الإخاء والليبرالية
الاستبداد الذي ساد في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وسياسة الاضطهاد والإبادة التي طالت جميع الشعوب، بما فيها النخب التركية، وحدت الجميع على هدف واحد، وهو معاداة هذا الظلم، والسعي لإعادة العمل بالدستور، وتحديد صلاحيات السلطان، وإنشاء حكم ليبرالي لا مركزي، واحترام التعددية القومية والثقافية، والإخاء بين المكونات العرقية المتنوعة التي تضمها السلطنة، والمساواة بين الجميع.
الآمال السابقة توحد حولها الأتراك والأرمن والعرب واليونانيين والبلغار والألبان والأكراد، وتعاونوا على مواجهة استبداد عبد الحميد، وانضم الجميع إلى حركة تركيا الفتاة (الاتحاد والترقي) المعارضة، وتحملوا الاضطهاد والنفي في سبيل وطن واحد يتسع للجميع.
بمساعدة الجيش، تمكنت الحركة من إجبار السلطان عبد الحميد على إعادة العمل بالدستور، وتم تقييد حركته عام 1908، لكن السلطان دبر تمردا ضد الحكومة الجديدة عام 1909، لكنه فشل بعد تدخل فرقة من الجيش، بقيادة الضابط العربي محمود شوكت.
كان من بين ضباط الجيش الذين أيدوا الدستور، ضباطا من الأتراك والعرب والأكراد والألبان، وفرق مسلحة من البلغاريين واليونانيين، ولولا تكاتف الجميع ما قدر مكون عرقي واحد على التصدي لطغيان السلطان عبد الحميد.
قبيل الصدمة
استقبلت الشعوب الواقعة تحت الاحتلال التركي نبأ إعادة العمل بالدستور عام 1908 بفرحة عارمة، فقد سقط الطاغية عبد الحميد، وتحقق ما كان الجميع يصبو إليه منذ عام 1887.
مظاهر الاحتفال عبرت عن مشاعر الإخاء والود بين جميع العرقيات والأديان، وظن العرب والأرمن والأكراد واليونانيين وغيرهم أن عهد الاستبداد قد ولى، وأن هناك فرصة للتعايش بين القوميات المتعددة في دولة واحدة، تحترم التنوع الديني والعرقي والثقافي.
الانتخابات المنتظرة، وآمال الإخاء، فجرت موجات الاحتفال، وفي شهر يوليو عام 1908 شارك المسلمون والمسيحيون في قداس مشترك للصلاة على أرواح الموتى في الجبانات الأرمينية في حي تقسيم وباليكلى، وكل من سقطوا ضحايا مذابح الأتراك بين عامي 1895 و 1896.
في منطقة الفنار بإسطنبول، مقر النخب اليونانية، ذهب الأمير صباح الدين عضو الاتحاد والترقي البارز لطمأنة البطريرك الأرثوذكسي، أن امتيازات اليونانيين لن تمس في عهد النظام الجديد، ووصف الأمير الهيلينية (الأمة اليونانية) بأنها مقوم لا غنى عنه للنظام والتقدم.
في صورة واحدة كان الملالي (رجال الدين المسلمين) والكهنة اليونانيون والأرمن والأحبار اليهود جنبا إلى جنب، يحيط بهم الجنود العثمانيون، تعبيرا عن الروح العامة التي سادت إسطنبول، عقب إزاحة الطاغية عبد الحميد الثاني.
غدر الأتراك
الثلاثي طلعت وأنور وجمال، سيطروا على جمعية الاتحاد والترقي، وتخلصوا من العناصر غير التركية، وكل من لا يؤيد دعاوى القومية المتطرفة، ومن خلال الجمعية بسط ثلاثى الشر سيطرتهم على الحكومة التي تشكلت برئاسة كامل باشا، بعد انقلاب عام 1908.
كامل باشا حاول إبعاد الجيش الذي يسيطر عليه الاتحاديون عن السياسة، فكان رد الاتحاديين هو الضغط على السلطان حتى عزله.
الثلاثي سيطر على السلطة لمدة 10 سنوات (1908-1918) لكنهم تبرؤوا من كل الشعارات التي رفعوها، والعهود التي قُطعت للأعراق الأخرى، وخلال هذا العقد تحطم كل أمل للإخاء أو التعايش، بسبب سياسة الاضطهاد والإبادة التركية ضد الأعراق الأخرى.
يأس العرب
أول الصدمات التي تلقاها العرب، كانت نسبة المقاعد التي خُصصت لهم في انتخابات برلمان عام 1908، فقد خُصص لهم 60 مقعدا، مقابل 142 للأتراك، في حين أن عدد العرب كان ضعف عدد الأتراك.
الأتراك تنكروا لفضل العرب في إنقاذ الاتحاديين من انقلاب عام 1909، الذي دبره عبد الحميد، بعد الدور البطولى الذى لعبه محمود شوكت باشا، والذى قاد فرقته العسكرية، ودخل إسطنبول، وعزل عبد الحميد.
رغم ذلك، حاولت النخبة العربية في إسطنبول والولايات الأخرى الحفاظ على الإخاء، وتم افتتاح جمعية الأخوة العربية – العثمانية، كانت مطالب العرب هى المشاركة في حكم بلادهم، وجعل اللغة العربية لغة للتعليم في الأقطار العربية.
في البداية كانت أقصى مطالب العرب هي الحكم اللامركزي، لكن سياسات التتريك، وانقلاب الاتحاديين عليهم، دفعتهم إلى المطالبة بالاستقلال التام، والعمل الثوري ضد الأتراك، عام 1916، حين اندلعت الثورة العربية الكبرى.
الأكراد والأرمن
كان 30 ألف كردي يعيشون في العاصمة العثمانية، وشاركت النخب الكردية في حركة التغيير، وكانت مطالبهم تنحصر في حكم ذاتي في المناطق ذات الأغلبية الكردية، والأرمن كان لهم مطالب تتمثل في الحكم الذاتي، في مناطق الأغلبية الأرمنية، واستخدام لغتهم في التعليم، ووقف المذابح بحقهم.
رد الاتحاديين على المطالب الأرمينية لم يتأخر، وسرعان ما استؤنفت المذابح بحقهم، راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، ومنها مذابح عام 1915، التي قتل الأتراك فيها 1.5 مليون أرمني.
بعد القضاء على الأرمن، جاء الدور على الأكراد، الذين تعرضوا للاضطهاد والتهجير والمذابح المستمرة حتى اليوم.
حادثة غوشوف
شارك البلغار في الحركة الثورية ضد عبد الحميد، وكانت في إسطنبول وتراقيا جالية بلغارية كبيرة، وكانت آمالهم هي المساواة والإخاء، وكان من بين الفرق التي دخلت إسطنبول وأنقذت الاتحاديين، عقب إنقلاب السلطاب، فرقة بلغارية من سالونيك.
حكومة الاتحاديين سرعان ما انقلبت ضد البلغاريين، رفاق الأمس، بعد حادثة غوشوف، كانت بلغاريا قد حصلت على استقلالها عن السلطنة عام 1788، رغم بقائها اسميا تابعة لها، وكان البلغاريون يتوقعون أن العهد الجديد سيتعامل مع وطنهم الأم على قدم المساواة، ويتخلى طوعا عن هذه التبعية الإسمية، التي لا تمثل أي ممارسة للسيادة، بل مجرد مسمى وضعته القوى الأوروبية في مؤتمر برلين عام 1878، للحفاظ اسميا على وحدة السلطنة.
أقام وزير الخارجية توفيق باشا، فى سبتمبر 1908، حفل عشاء للدبلوماسيين الأجانب في منزله، وقام بتوجيه الدعوات إلى السفراء والممثلين الأجانب، ولم يوجه دعوة إلى الممثل الدبلوماسي البلغاري، السيد غوشوف، وكانت تلك إشارة من حكومة الاتحاديين أنهم مازالو ينظرون إلى فردناند أمير بلغاريا، بصفته حاكم ولاية عثمانية، وليس ملكا مستقلا.
ردا على هذه الغطرسة العثمانية الزائفة، أعلن الأمير نفسه قيصرا مستقلا لبلغاريا، وتسبب ذلك في إعلان النمسا ضم البوسنة والهرسك، وكانت أيضا ولاية عثمانية اسما.
الحادثة كشفت عن استمرار النظرة الدونية من الأتراك تجاه الأعراق الأخرى، وتسببت في قطيعة بين البلغار والأتراك، وهو ما كان له دور في اشتعال الحرب البلقانية، التي شاركت فيها بلغاريا، وما تبعها من تبادل سكاني.، وصار حلم الإخاء والوطن الواحد مجرد أحلام بالنسبة للبلغار.
ألبانيا الحرة
الألبان الذين شاركوا في الثورة على عبد الحميد، كانت مطالبهم تنحصر في استخدام اللغة الألبانية في التعليم والمؤسسات، والحصول على الحكم الذاتي.
لم يهتم الترك بتلك المطالب، وردوا عليها باستخدام العنف في قمع الحراك القومي الألباني، وتسبب ذلك في قطيعة بين الألبان والأتراك، وفى عام 1912 رد الشعب الألباني على الغدر التركي بإعلان استقلاله عن السلطنة، وتأسيس جمهورية ألبانيا برئاسة إسماعيل كمال بيه.
القضية قضية الشعب الأرمني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.