
كاتبة وأكاديمية أرمنية من تركيا.
فبراير 24 2019
عندما تحدث بعض التطورات الدولية “التي لا تلقى قبولاً” داخل تركيا، تثور ثائرة الحكومة والشعب معًا.
لا يتورع المسؤولون الحكوميون عن ارتكاب ألف جريمة حض على الكراهية ضد الدولة أو المؤسسة أو الأشخاص سبب المشكلة، بل لا يتورعون عن احتقار أصولهم العرقية وتحقير آرائهم السياسية.
وعندما يتعلق الأمر باعتراف دولة جديدة بمذبحة الأرمن، فهذا أمر جلل؛ يستدعي من الحكومة أو المعارضة، على حدٍ سواء، إطلاق المزيد من التصريحات العقابية الحادة إذا جاز التعبير.
أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون في الأسابيع الماضية يوم الرابع والعشرين من أبريل يوماً رسمياً في فرنسا لتخليد ذكرى مذبحة الأرمن؛ الأمر الذي أثار حفيظة تركيا، وانطلقت على إثره ردود الفعل الغاضبة؛ فسارع المسؤولون في الحكومة برفض القرار الفرنسي، ووصفوا الحديث عن المذبحة بأنه أكذوبة سياسية لا أساس لها من الصحة.
عجت الساحة التركية بالكثير من الأحاديث حول هذا الموضوع؛ منها قول رئيس الحزب الوطني اليساري دوغو برينجك، الذي كتب مخاطباً ماكرون “مذبحة الأرمن في حقيقة الأمر أكذوبة رأسمالية”.
ولكني سأتوقف قليلاً عند رد فعل، أو بتعبير أدق عند التهديدات التي أطلقها زعيم حزب الوحدة الكبير مصطفى دستيجي.
زعم دستيجي في حديثه أن هناك مائة ألف أرمني وافد من أرمينيا يعيشون في تركيا بشكل غير قانوني، وأطلق تهديده لماكرون قائلاً “من أنت حتى تحتقر هذه الأمة بادعائك وقوع مذبحة في حق الأرمن. هناك مائة ألف أرمني هربوا من بلدهم أرمينيا، ويعيشون اليوم في تركيا، ويرتزقون من العمل بها. وسيكون في صالح تركيا لو أنها قامت بترحيلهم إلى بلدهم؛ لأنهم يشكلون ضغوطاً كبيرة على تركيا، كما أننا نتحمل أعباء إطعامهم هنا”.
بالطبع كان دستيجي يتحدث عن الأرمن، الذين يعملون في تركيا دون الحصول على تصريح عمل، وليس أرمن تركيا كما فهم البعض بشكل خاطئ.
والحقيقة أنه لا يجب أن نحمل كثيراً على دستيجي بسبب تصريحه هذا؛ لأننا نعرف جيداً أنه ليس صاحب أطروحة “لنطردهم من تركيا!”.
إنه مجرد قومي ساذج، يتحدث بما تبقى في عقله من شعارات؛ ظناً منه أنه يأتي باختراع جديد.
والواقع أن العلاقة بين الاعتراف الدولي بمذبحة الأرمن، وطرد العمال الأرمينيين من تركيا ليست وليدة هذه الأيام، ولكنها تعود إلى فترة زمنية قديمة.
ذكرت زعيمة حزب الطريق القويم تانسو تشيلر عام 2000 في تعليقها على إثارة موضوع مذبحة الأرمن في الولايات المتحدة الأميركية آنذاك “يتعين على الحكومة أن ترد على هذه الادعاءات بترحيل 30 ألف أرميني يعملون في تركيا بشكل غير قانوني”.
وفي عام 2005 ذكر وزير الخارجية التركي آنذاك غول أن عدد الأرمينيين تركيا 40 ألفاً، وأن سماح تركيا ببقائهم على أرضها يعتبر لفتة طيبة من جانبها.
كما ذكر النائب عن حزب العدالة والتنمية في عام 2006 ياكيش، في تصريح له مع نائبين آخرين عن حزب الشعب الجمهوري هما أليك داغ وأويمَن، أنه سيكون من الصواب لو قامت تركيا بترحيل 40 ألف أرميني يعيشون على أرضها.
ثم عاد ياكيش ليكرر اقتراحه هذا مرة أخرى في عام 2007، ولكنه ذكر هذه المرة أن تركيا تأوي 70 ألفاً من مواطني أرمينيا.
استقرت التصريحات الصادرة عن حزب العدالة والتنمية بعد ذلك على رقم 100 ألف أرميني، وظلت على هذا منذ فترة، دون الإشارة إلى مصدر هذه المعلومة.
ومع اقتراب الذكرى السنوية المائة لمذبحة الأرمن، خرج أردوغان عام 2010، وكان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك، قائلاً “يعيش في بلدي 170 ألف أرمني؛ منهم 70 ألفاً من مواطني هذا البلد، ونتولى أمر مائة ألف آخرين من الوافدين من أرمينيا، ولكننا لن نتردد في أن نقول لهؤلاء: هيا اذهبوا إلى بلدكم، إذا اقتضت الضرورة ذلك مستقبلاً”. كان حديثه بمثابة تهديد صريح بطرد هؤلاء الأرمن؛ تهديد صادر عن أكبر مسؤول في تركيا.
أدلى أردوغان بتصريحه هذا في فترة تأزمت فيها العلاقة بين تركيا وأرمينيا في كافة النواحي. ولكن يبقى السؤال هنا، لماذا أقحم أردوغان مواطني الجمهورية التركية من الأرمن، الذين يشكلون “عنصراً أصيلاً” في بناء المجتمع التركي منذ الدولة العثمانية حتى إعلان الجمهورية، في حديثه الذي هدد فيه بطرد الأرمن الوافدين من دولة أرمينيا، الذين يعملون في تركيا بشكل غير شرعي؟
لم يتردد أردوغان، بعد عام 2010، في تكرار كلمات من قبيل سنطردهم، سنلقي بهم خارج حدودنا، سنرحّلهم إذا اقتضت الضرورة ذلك، ومن ورائه استمر المسؤولون الحكوميون في تركيا، إلى الآن، يستخدمون موضوع “الأرمن الذين يعملون بشكل غير شرعي في تركيا” كورقة رابحة في البرلمانات الغربية فقط، كلما طُرِح مشروع قرار بخصوص مذابح الأرمن.
تحدثتُ عن هذا الموضوع، على وجه الخصوص، مع عدد من البيروقراطيين أثناء فترة دراستي في أنقرة عام 2013. طلبت منهم أن يخبروني بأصل العدد الذي يكرره المسؤولون باستمرار. كان سبب سؤالي أن هذ الرقم لم يرد في أي تقرير، ولم يُنقل عن أي مصدر محدد. المثير للدهشة أن بعضهم نصحني بقوله “أنتِ ترهقين نفسكِ بسؤالك حول هذا الموضوع، لا تشغلي بالك، في رأيك أنتِ: كم يبلغ عددهم؟”
تأكَّد لديَّ أن الدولة لا تعرف، على وجه التحديد، الرقم الحقيقي لهؤلاء، وحاولت، من جهتي، أن أحصل على رقم موثوق لمواطني دولة أرمينيا، الذين يدخلون ويخرجون من تركيا، ولم أتوصل إلى شيء سوى أن أعدادهم تجاوزت 7 آلاف فرد في عام 2014.
كانت السبب الحقيقي وراء زعمهم، منذ اليوم الأول، أن أعداد الأرمن في تركيا تتراوح بين 40-60 ألف راجع إلى خلطهم بين الأقلية الأرمنية في تركيا والأرمن الوافدين دولة أرمينيا، ويعملون في تركيا أيضاً.
بدأوا بقولهم إن أعدادهم تقدر بـ40 ألفاً، ثم رفعوا العدد إلى مائة ألف، ولا يزالون يكررونه حتى الآن.
أعتقد أنه من السذاجة حقاً أن نتوقع من بلد مثل تركيا؛ يتبع سياسة قاسية ضد المهاجرين، أن يتبع سياسة أخلاقية إنسانية مغايرة تماماً مع المهاجرين الأرمن، الذين يعتبرون، من وجهة نظره، عدوه الأبدي. ومع هذا، ربما يكون من الأفضل أن نلقي نظرة سريعة على الأسباب التي دفعت بتلك الأعداد من مواطني أرمينيا إلى المجيء إلى تركيا.
بدأ الأرمن، من مواطني دولة أرمينيا، يقصدون تركيا طلباً للعمل، عقب موجة عدم الاستقرار الاقتصادي، وارتفاع نسبة البطالة التي عصفت بأرمينيا، بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وبعد التأثير السلبي الذي أحدثه زلزال عام 1988 على الدولة أيضاً، بالإضافة إلى الحصار المؤلم الذي تعرض له الشعب الأرميني، بعد إغلاق الحدود الأرمينية مع كل من تركيا وأذربيجان، على خلفية صراعها مع أذربيجان على منطقة ناغورني قره باغ.
من ناحية أخرى، لا يجب أن نغفل بعض العوامل الأخرى، التي جعلت الأرمينيين يتجهون إلى تركيا، والتي يأتي على رأسها سهولة الوصول إلى تركيا، على الرغم من إغلاق الحدود، وانخفاض تكلفة الانتقال بين البلدين، بالإضافة إلى المساعدات التي يقدمها مواطنو أرمينيا، الذين يعيشون في تركيا منذ فترة طويلة، بالتعاون مع الجمعيات الأرمينية هناك، إلى الوافدين الجُدد، من أجل تدبير مكان لإقامتهم، ومساعدتهم في الحصول على فرصة عمل.
تستحوذ السيدات الأرمينيات على نسبة 96% من أجمالي الأرمن الموجودين في تركيا. تعمل تلك السيدات في وظائف معينة لها علاقة بالأعمال المنزلية ورعاية المرضى، وقد يلتحق البعض منهن، بسبب معرفتهن باللغة الروسية، بالعمل في محال بيع الملابس والمنسوجات. أما الذكور فهم قليلون للغاية؛ ويعملون في مهن محددة أيضاً مثل صياغة الذهب وصناعة الأحذية. وتشير الإحصاءات إلى أن ما يقرب من 300 طفل أرمني وُلِدوا في تركيا.
منح حزب العدالة والتنمية خلال الأعوام السابقة هؤلاء الأطفال، الذين لا يملكون بطاقات هوية، ولا يستفيدون من حقهم في التعليم، فرصة للقيد في المدارس الحكومية، بنظام “طالب زائر”. ومن ناحية أخرى، غضت الدولة الطرف عن إنشاء مدرسة لأجلهم في منطقة كوم قابي، حملت اسم الصحفي الأرمني هرانت دينك.
ومع اختلاف الحكاية، التي تأتي بها كل واحدة من تلك السيدات إلى تركيا من أجل العمل، إلا أنهن يأتين في نفس الطريق؛ فيركبن حافلة بخمسين دولاراً؛ تقطع بهن الطريق من تبليسي وباتومي في جورجيا، وصولاً إلى إسطنبول في النهاية، وتدخل تلك السيدات إلى تركيا بعد الحصول على تأشيرة مدتها شهر من الحدود التركية الجورجية.
وعلى الرغم من أنه قد يبدو منذ الوهلة الأولى أن وجود جالية أرمنية في تركيا سيعود بالنفع على الأرمن الوافدين من أرمينيا حديثاً، من ناحية مساعدتهم على إيجاد فرص عمل، إلا أنه تحدث، في بعض الأحيان، مشكلات بين الأرمن أنفسهم داخل الجمعيات التي يقصدها الوافدون الجدد؛ حيث تقف الفروق الثقافية بين أرمن تركيا والأرمن الوافدين، بالإضافة إلى اختلاف اللغة، حاجزاً أمام تآلفهما. أضف إلى هذا النظرة الاستعلائية من جانب أرمن تركيا، واحتدام النقاش بينهما بين الحين والآخر، عند المقارنة بين أرمن تركيا وأرمن أرمينيا؛ وهو ما يسبب ضرراً نفسياً كبيراً لهؤلاء.
تروي هؤلاء السيدات كيف كان الأتراك، الذين يعملون معهن، أكثر احتراماً وتأدُّباً في التعامل معهن. يتحدثن كذلك عن أن أرباب العمل من أرمن تركيا كانوا يتصرفون بوازع “التصدُّق، وفعل الخير”، وليس بإعتبارهن يأخذن أجورهن مقابل ما يؤدين من عمل.
ما أود قوله هنا إنه يتعين على تركيا أن تتخلى عن أحاديث الأرقام، وإطلاق تهديداتها التقليدية بطرد الأرمن. عليهم أن يدركوا أن السيدات الأرمينيات لا ينعمن بالحياة في تركيا، كما يتوهمون، مثلهن في هذا مثل سيدات أخريات قدمن من جورجيا وأذربيجان ومولدوفا، واللاتي يعملن في تركيا بشكل غير شرعي كذلك، ويشعرن بنفس المعاناة؛ لأنه من الصعب على أشخاص هربوا من بلدهم، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أن يقيموا حياةً جديدةً في بلد أجنبي لا يعرفونه.
ولكن ما نراه للأسف أن تركيا تتعمد غض الطرف عن دخول أعداد كبيرة من هؤلاء المساكين إلى أراضيها؛ لتساوم بهم في الأزمات السياسية كلما اقتضت الضرورة ذلك..!
لقراءة المقال باللغة التركية على هذا الرابط
القضية قضية الشعب الأرمني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.