22-فبراير
2019
2019تظل رسالة شريف مكة، الحسين بن علي، عام 1917، إلى مسلمي العالم، والتي يطالب فيها العرب والمسلمين بحماية الأرمن، حدثا تاريخيا، يعكس العلاقات الطيبة بين الشعبين، منذ أول اتصال بينهما في القرن السابع الميلادي.
وكانت وصية شريف مكة إلى الأميرين بن فيصل، وعبد العزيز الجربا، بمساعدة أبناء الطائفة الأرمنية، بموجب أمر صادر من أم القرى في الثامن عشر من شهر رجب 1336هـ. قال فيه:”يجب عليكم أن تحافظوا عليهم، كما تحافظوا على أنفسكم، وأموالكم وأبنائكم، وتسهلون كل ما يحتاجون إليه، فإنهم أهل ذمة المسلمين … هذا أهم ما نكلفكم به، وننتظره من شيمكم وهممكم”.

يحظى الأرمن بمكانة كبيرة في الدولة الإسلامية العربية، التي فتحت أبوابها لكل شعوب الأرض، وظل التعاون قائما بينهما، حتى تعرضهما لغزوات العثمانيين البرابرة.
حاول العثمانلية تتريك الأرمن، وحين فشلوا لجأوا إلى إبادتهم من أرمينيا الغربية، التي تمثل 30% من مساحة الأناضول، ومن نجوا من المذابح تم تهجيرهم إلى الشام والعراق.
القبائل العربية في ديار بكر والشام، والضباط العرب في الجيش العثماني، سطروا ملاحم إنسانية لإنقاذ الأرمن، من رصاص جنود السلطنة، وتحملوا في سبيل ذلك غضب المحتل العثماني.
عراقة شعبين
علاقة الأرمن مع العرب بدأت عام 55 ميلاديا، بدعوة السوريين للملك ديكران الثاني، للقضاء على الاضطرابات في بلادهم، ودخلت سورية ولبنان وفلسطين، تحت حكم المملكة الأرمنية.
في عهد عمر بن الخطاب دخلت الجيوش العربية أرمينيا، وكانت علاقتهم طيبة بالمسلمين، ونشأ حلف بينهما، بموجبه تمتعت أرمينيا باستقلال ذاتي، تحت التبعية العربية، التي وفرت لها حماية من بيزنطة.
موطن الأرمن التاريخي شمل جمهورية أرمينيا الحالية، غربا حتى البحر المتوسط، وشمل نصف الأناضول، كانت ديار بكر ضمن موطنهم الأصلي، وهي المنطقة التي شهدت هجرة قبائل عربية عديدة.
تعاون الجانبان في حربهم ضد قبائل الخزر التركية، وظلت العلاقة طيبة بينهما، طوال عهد الراشدين، والأمويين والعباسيين.
خضع الشعبان للاحتلال العثماني، في فترات تاريخية متقاربة، أرمينيا الصغرى (الغربية) تم غزوها عام 1473، وبلاد العرب عام 1516، ومنذ ذلك الوقت عانى العرب والأرمن من الطغيان والتنكيل والمذابح على يد لصوص الدولة العثمانية.

قضية الأرمن
أرمينيا التركية ضمت ولايات ست، وهي (أرضوم، وان، تبليس، ديار بكر، معمورة العزيزة، سيواس)، وحاليا تشمل 16 ولاية في تركيا الحديثة.
بدأت المسألة الأرمنية تفرض نفسها بقوة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، الذي عمل على تهجير الأرمن من مناطقهم، وتوطين القبائل الشركسية، لخلق صراع قبلي دائم، يكون ذريعة لتصفية من تبقى منهم.
في عهد عبد الحميد قتل 300 ألف أرمني، في الأناضول، وتوطين 800 ألف من عرقيات مختلفة، منها الشركس، والكرد، والبلقانيون، لتغيير الواقع الديموغرافي لمناطقهم، وبذلك أصبح الأرمن أقلية، في أرمينيا الغربية، لأول مرة.
وغرر السلطان ببعض القبائل الكردية، واستخدمها في حملة التطهير العرقي لأصحاب الأرض، وفي عهد خلفاء عبد الحميد من الاتحاديين (جمعية الاتحاد والترقي) توسعت حملة الإبادة منذ عام 1915.
تجاوزت حملة التطهير العرقي في ذلك العام، المناطق المحلية، لتشمل جميع الأرمن في الأناضول، وإسطنبول، ولم يوقف التهجير والمذابح العرقية، سوى هزيمة تركيا، في الحرب العالمية الأولى، وفي تلك الحقبة لقي 1.5 مليون أرمني مصرعهم، بطرق وحشية، شملت الحرق، والإعدام بالرصاص، والذبح، والإغراق، والخنق، وتعرضت النساء للاغتصاب .
تجددت سياسة التهجير والقتل مع سيطرة الكماليين (مصطفى كمال أتاتورك) على السلطة، وخلال تلك الفترة، طرد من تبقى من الأناضول.
أبواب مفتوحة
القوميون العرب أيدوا مطالب نظرائهم الأرمن، وغيرهم من الأقليات الباحثة عن الحرية والاستقلال، في سلطنة الظلم العثمانية.
المؤتمر العربي، الذي عقد في باريس 1913، أعلن دعمه لمطالب أرمن تركيا، التي تمثلت في الحكم اللامركزي، وفي منطقة ديار بكر قامت العشائر العربية، بإيواء آلاف الرجال والنساء من الأرمن، وتوفير الحماية لهم من هجمات الميليشيا العثمانية.
فائز الغصين محامي عربي في دمشق، تم القبض عليه، في إطار حملة الاعتقالات التي طالت القوميين العرب، على يد جمال باشا السفاح، وصدر أمر بنفيه إلى ديار بكر عام 1915 ، وبعدها تقرر إعدامه، إلا أنه تمكن من الفرار من السجن، والتحق بقوات الثورة العربية، في الحجاز عبر العراق.
دون الغصين مشاهداته عن مذابح الأرمن، في جنوب الأناضول، وفي المناطق التي مر بها، وكتب عن دور العشائر العربية في حماية الأرمن قائلا:”لم أسمع أحد من عشائر العرب قتل أرمنيا، وقد مر بعض العربان على بئر، فوجدوا نساء وأطفالا ألقوا فيه، وهم على آخر رمق من الحياة، فأنقذوهم، وأخذوهم معهم، وعالجوهم إلى أن شفوا”.
في قضاء البشري بديار بكر، رفض العربي ثابت بك السويدي، قائمقام القضاء، تنفيذ أوامر الداخلية، بقتل الأرمن، وقام بتقديم استقالته، وتوجه عائدا إلى موطنه بغداد، إلا أن الأتراك اغتالوه في الطريق.

علي سواد باي
موقف عربي مشرف، كان بطله علي سواد باي، حاكم منطقة دير الزور، أثناء مجازر الأرمن، والذي جمع آلاف الفارين من الهولوكوست العثماني، ووضعهم تحت حمايته، ووفر لهم فرص عمل، وبنى دارا للأيتام، تولت رعاية من قتلت عائلاتهم.
حكام إسطنبول بزعامة طلعت باشا، رئيس الوزراء، طلبوا من علي باي، ترحيل الأرمن إلى المعسكرات، في صحراء المنطقة، تمهيدا لتصفيتهم، لكنه رفض، وأرسل برقية إلى إسطنبول نصها: “إن وسائل النقل غير كافية لترحيل الجماعات، أما إذا كان هدفكم إبادتهم، فإنني لا أستطيع القيام بذلك، أو الأمر به”.
عقاب الأتراك طال الحاكم العربي سريعا، فصدر قرار بعزله، وتعيين زكي بيك الشهير بتعطشه للدماء، فكان أداة طيعة في يد طلعت بك لتنفيذ المذابح بحق الأرمن.
البرقيات وصلت إلى الولاة في حلب، واضحة، بالتخلص من الأرمن بأي شكل، وكان العزل مصير من يمتنع عن التنفيذ.
وفر عرب مدينة حلب المأوى والحماية، لكثير من الأرمن، وحين علمت وزارة الداخلية بذلك، أرسلت برقية للوالي جاء فيها: “ألغي حق الأرمن في أراضي تركيا إلغاء تاما، إن الحكومة أمرت حتى بعدم ترك الأطفال، وشوهد في بعض المقاطعات تنفيذ هذا المرسوم، أما في حلب لأسباب نجهلها، بدلا من أرسال الأرمن للمنفى يتركون في حلب”.
وشددت الحكومة على طرد الأرمن، وأجبرت الأسر المسلمة على عدم تبني الأطفال الأرمن.
مواقف الشجاعة العربية أمام همجية الأتراك، كانت شائعة في حلب، المجاورة للأناضول، والتي مر المهجرون الأرمن خلالها.
قائد فيلق بالجيش الثالث وجه إنذارا إلى العرب، بأن من يحمي أرمني، سيعاقب بالشنق، أمام داره، ويحرق بيته، رفض الموظفون العرب تلبية أوامر إسطنبول بقتل الأرمن، ومن هؤلاء، جلال بك، وسامي بك، في حلب.
في حماة السورية، قام رجل الدين عبد الله مسائي، بإنشاء ملجأ للأطفال الأرمن، الذين نجوا من القتل، ووصلوا إلى المدينة.

تضامن عربي
أما بالنسبة للموقف الرسمي في البلاد العربية، فقد ظهر جليا في موقف الشريف حسين قائد الثورة العربية، الذي أصدر مرسوما هاشميا، إلى الأمراء العرب، والعشائر، يوصيهم بإيواء الأرمن، وإطعامهم.
ووافقت حكومات سورية ولبنان، في معاهدة لوزان، عام 1923، على منح الأرمن اللاجئين في أراضيهم، الجنسية العربية، ومساواتهم التامة بالعرب.
وأصدر شيخ الأزهر سليم البشري فتوى في عام 1909، ردا على فظائع الأتراك في أضنة، بحرمة إراقة دم المسيحيين، وقام حسن صبري باشا رئيس الوزراء المصرى، بطبع 25 ألف نسخة، على نفقته، وتوزيعها في الأناضول، لإنقاذ الشعب التركي، والأكراد، من الدعاية المضللة ضد الأرمن، برعاية عبد الحميد الثاني.
استقبلت مصر عشرات الآلاف من الفارين من الإبادة، وكان من بينهم 4 آلاف، تم نقلهم على متن سفينة فرنسية، إلى بورسعيد.
رد الجميل
الأرمن حفظوا الجميل للعرب، وعبروا عن شكرهم لهم بشكل مباشر، من خلال الصحف والكتب، وبشكل غير مباشر بالاندماج في الشعوب العربية، وخدمتها كمواطنين مخلصين.
كتب المفكر والصحافي كرسام أهارونيان في كتابه “القضية الأرمينية أمام الرأي العام العربي”: “الشعب الأرمني لا ينسى، ولن ينسى أبدا، ما لقى من عطف وحسن ضيافة، عند إخوانه العرب، إبان أفظع محنة عرفها في تاريخه، عندما فتحت البلدان العربية أبوابها، لاستقبال مئات الألوف من المهاجرين الأرمن، الهاربين من الظلم والقتل والمذابح”.
عام 1917 شاركت كتيبة من المتطوعين الأرمن عددها 3000 مقاتل، في تحرير نابلس من القوات التركية، بجانب إخوانهم العرب في جيش الشريف حسين.
ورفضوا محاولات فرنسا للاستعانة بهم في سورية، ضد العرب، وعاقبهم الفرنسيون بقصف أحيائهم، وكادت أن تدمر لولا تدخل المقاومة السورية، وتطويقها الثكنة الفرنسية.
في الثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة سلطان باشا الأطرش، ضد الاحتلال الفرنسي، شارك الأرمن مع العرب.
وتكرر المشهد في لبنان، عام 1943، ضد الانتداب الفرنسي، وشاركوا في مقاومة العرب للاحتلال الصهيوني لفلسطين.
المصادر :
1 – نقية حنا منصور: الأرمن والدولة العثمانية
2 – محمد رفعت الإمام: مصر وإنتاج المعرفة – القضية الأرمنية نموذجا
القضية قضية الشعب الأرمني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.