كتبت عبير العدوى
وبين التاريخ القديم والحديث تبقى “إبادة الأرمن” عبارة تثير رعب رجب أردوغان، فعمليات القتل والتعذيب الممنهجة المرتكبة من أجداده العثمانيين لم تغلق بعد، ومازال العالم يتحدث عنها ويطالب بالتحقيق فيها، وكان آخرها قرار الرئيس الفرنسى بإحياء ذكرى الجريمة التركية التى لا تسقط بالتقادم.

تشير المصادر التاريخية المتعددة إلى وقوع مذابح إبادة الأرمن بين عامى 1915 و1917 على يد حكومة الاتحاد والترقى، التى ادعت أن روسيا أثارت الأرمن المقيمين قرب الحدود، واتخذت من ذلك تبريرًا لقتل الآلاف منهم ودفن آخرين أحياء، ويقدر الباحثون أعداد الضحايا بنحو 1.5 مليون شخص.
وفى وقت تمارس فيه حكومة “العدالة والتنمية” سياسة تطهير عرقى وطمس هوية متعمد ضد الأقليات الكردية والأرمنية، جاءت ردود الفعل الدولية المعترفة بمذابح “إبادة الأرمن” لتمثل حالة من الرعب للنظام التركى، وهو ما يحاول أردوغان مواجهته دائمًا بإثارة النزعات القومية المتعصبة فى الداخل التركى.

على مدار 100 عام كاملة، كانت هناك محاولات للاعتراف رسميا بإبادة الأرمن، إلا أن لعبة المصالح كانت تتدخل دائمًا لتؤجل هذا الحلم، وتؤجل معه إسقاط الأقنعة عن أنقرة، ومحاسبتها على ما جنت بحق البشرية، فى واحدة من أكبر الجرائم التى عرفها التاريخ بإبادة أهلكت أكثر من 1.5 مليون مسن وامرأة وطفل وشاب، لم يقترفوا ذنبًا بحق قاتليهم الأتراك.
وإجمالا استخدمت 30 بلدا فى العالم مصطلح “الإبادة الجماعية” لتوصيف المذبحة التى تعرض لها الأرمن، بينها دول كبرى مثل روسيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، إضافة إلى منظمات دينية وسياسية مثل الكنيسة الكاثوليكية والبرلمان الأوروبى، إلا أن تلك الدول والهيئات لم تتمكن من قيادة الإجماع الدولى لإدانة المذابح.

وفى أعقاب صعود لجنة الاتحاد والترقى التركية، كانت أمم مثل الأرمن واليونايين يحدوهم أمل فى التخلص من عصور استعباد تركية عثمانية سابقة، إلا أن النظام العثمانى الجديد تعرض لخسائر إقليمية متتالية، وبعد هزائم النظام فى الحروب البلقانية ما بين 1912 ـ 1913، انتزعت منهم الأراضى الأوروبية المتبقية من أنقاض السلطنة العثمانية، ماعدا “تراقيا واسطنبول”، وتزامن الأمر مع ظهور ضباط أتراك متطرفين وصلوا إلى السلطة، فكانوا أكثر عنصرية ضد الأرمن واليونايين، وبدأ الأمر بمقاطعة حوانيتهم وشركاتهم، وسط تصاعد الازدراء والتنكيل بهده العناصر غير التركية، وهو إرث التنكيل الذى زرع بذوره عبد الحميد الثانى، الذى أمر بمجازر فى الفترة من 1894 حتى 1896، وصنف الأرمن واليونايين كخونة وجب القصاص منهم.
ووسط هذه الأجواء من الكراهية، كان الاتهام التركى للأرمن بالميل جماعياً إلى الروس، وشككوا فى ولائهم العثمانى، وبدأ البحث عن الأرمن من عمر 20 حتى 40 عاما لتجنيدهم فى الحروب، وكانت حملات التفتيش عنهم نهبًا ممنهجًا لمنازلهم، فيما كان إعلان الإبادة التركية بحق الأرمن ردًا على تصدى الأرمن لمحاولات الحكومة التركية آنذاك لتتريك الأناضول، وبسط سيادة قومية واحدة هناك، وبدأت عمليات التهجير القسرى بالقوة، وتحفيز القوميات التركية المتعصبة فى مقابل التنكيل بالأرمن، وكان الهدف الأساسى إزاحة الأرمن لبسط منطقة اتصال جغرافى مع الأتراك القوقاز.
فى تلك الأثناء بدأت الصحافة التركية فى وصف الأرمن بـ«أعداء الداخل»، وبخونة الوطن والمتضامنين مع الحلف الثلاثى (فرنسا- بريطانيا- روسيا). وسُربت إلى الصحافة إيحاءات تتهمهم بالتآمر على أمن الدولة وتعد الجمهور لاستقبال إجراءات جذرية فى حق الجماعة الأرمنية كلها.
وفى مارس 1915 كان قرار اللجنة المركزية الاتحادية باستئئصال الأرمن، عبر جماعات من المجرمين قضوا فترات عقوبتهم وتم تشكيل وحدة شبه عسكرية منهم باسم “تشكيلاتى مخصوصة”، وكان الهدف واضح، تصفية الأرمن، أو نفيهم.

وبسبب ظروف الحرب كان رجال وشباب الأرمن يشاركون فى صفوف الجيش التركى، ما بين 20 إلى 40 عاما، ما سمح بإخلاء الأرياف الأرمينية من معظم الرجال، ليأتى بعدها قرار وزير الحرب “أنور باشا”، بنزع سلاح المجندين الأرمن من صفوف الجيش ونقلهم إلى أفواج عمل، قبيل قتلهم فى جماعات صغيرة ضمن أماكن نائية، ومن حالفهم الحظ من الأرمن كانوا أسرى لدى الجيش الروسى فى معتقلات سيبيريا.

وفى 24 أبريل 1915، بدأ إجراء آخر فى إطار مخطط بغيض لاستئصال الأرمن، وهو القرار الذى تناول النخب السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية من الأطباء والمحامين والمدرسين والصحافيين والكتاب والسياسيين وغيرهم، حيث تم إعداد كشوف بأسمائهم والقبض على المئات منهم، وقتل بعضهم، وأرسل آخرون إلى المعتقلات قبل قتلهم.
وعين وزير الداخلية، طلعت باشا، لجنة خاصة أشرفت على لجنة الاتحاد والترقى العليا، ومن أعضائها: “إسماعيل جنبلاط، مدير الأمن العام ومحافظ اسطنبول، وعزيز بك، مدير الأمن العام فى وزارة الداخلية، وعلى مينيف، مساعد وكيل الداخلية، إلى بدرى بك، قائد شرطة العاصمة، ومصطفى رشاد، مدير الإدارة السياسية فى وزارة الداخلية، ومراد بك، مساعد مدير العاصمة”.
بعدها تعاقبت مراحل استئصال السكان الأرمن دون توقف أو انقطاع، وأصبح مليون ونصف المليون أرمنى ضحايا الإبادة التركية، بينما تمكن آخرون منهم من الفرار إلى دول مجاورة، وكان لمصر نصيبها من الأرمن الهاربين من مذابح العثمانيين، حيث اندمجوا بين الشعب المصرى حتى صاروا جزءًا لا يتجزأ من نسيج مصر، وصار البعض منهم ضمن قائمة كبار الفنانين والمشاهير المصريين.

القضية قضية الشعب الأرمني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.