يعاني أبناء المجتمع التركي اليوم، الذين لم يشهدوا أحداث مذابح الأرمن، آلاماً مشابهة، بعد مرور مائة عام على هذه الواقعة، بما يرونه فظائع ضد الأكراد من جهة، ومحاولة السلطة الحاكمة في تركيا اليوم تكميم أفواه المثقفين والعلماء الأتراك، بإلصاق تهم الانضمام إلى منظمات اختلقوها، لا وجود لها على أرض الواقع، من جهة أخرى.
وبحسب تقرير في موقع “أحوال تركية”، أمس الأحد، يقول الكاتب أرغون باباهان: “نعاني اليوم نفس نموذج السياسة، التي اتبعها طلعت باشا،مؤسس جمعية الحرية العثمانية، وأحد القادة البارزين في الدولة العثمانية، ومن مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي، في الماضي لجعل الأناضول تركية مسلمة، ولكن الفارق هنا أن هذا النموذج يطبق الآن بشكل يتوافق مع الظروف الراهنة، إذ كانوا في تلك الفترة يشنقون كل من يبدي تعاطفاً مع الأرمن، أو يمد يد العون لهم. أما الآن، فالسلطة الحاكمة في تركيا تزج في غياهب السجون بكل من يقف إلى جوار الأكراد، أو يساند قضيتهم”.
تهمة الإرهاب
وكانت محاولة الدولة إلصاق تهمة الإرهاب بمركز الأناضول الثقافي وغيزي مظهراً آخر من مظاهر هذه الكوميديا السوداء، التي تفتق عنها عقل الحكومة التركية الحالية، لأننا نعرف جميعاً هؤلاء الأشخاص، ونرى بأعيننا ما يقومون به من أعمال، ونعلم يقيناً أنه لا يوجد بينهم من له علاقة بأية منظمات إرهابية، أو بارتكاب أحداث عنف داخل تركيا. أعتقد أن الشيء الوحيد، الذي يمكن أن يُلام عليه هؤلاء الأشخاص، أنهم كانوا من أصحاب الضمائر اليقظة في تركيا اليوم.
وكان من الطبيعي ألا تترك الدولة التركية اليوم، بقيادة أردوغان، هؤلاء، وكل من على شاكلتهم من أصحاب الضمائر اليقظة، دون أن تلصق بهم التهم، وتكيل لهم الاتهامات، لأن عقلية الدولة التركية اليوم، وعقلية من يمثلونها تشبه إلى حدٍ كبير، الخِرق البالية، التي تبيع روحها بثلاث عملات. لا يحتاج الأمر لكثير من الجهد، حتى ندرك الحقيقة مجردة، لا شيك فيها. يكفينا فقط أن نلقي نظرةً على الإعلام الموالي للسلطة وأذنابه لنعرف كل شيء” وفق التقرير.
يمكن لمتابع هذه الصورة القاتمة أن يجد تشابهاً كبيراً بين فظائع مذابح الأرمن، وما قامت به حكومة أردوغان من ترويع واعتقالات في 24 أبريل(نيسان) الماضي “عزاؤنا الوحيد أن أصدقاءنا هنا لن يُقتلوا في طريقهم إلى أنقرة كما حدث مع الأرمن في الماضي”.
هؤلاء الأشخاص هم المثقفون، الذين يتمتعون بالاحترام والمصداقية في مجال عملهم على مستوى العالم، الذين لا يشغلهم سوى إرساء السلام والصداقة، وترسيخ مبادئ الديمقراطية والقانون، لذلك كان من المخجل حقاً أن نلصق بمثل هؤلاء تهماً من قبيل ارتكاب أعمال عنف، أو التحريض على التمرد، كما أن هجوم قوات الأمن على منازلهم في السادسة صباحاً، واقتيادهم من فراشهم إلى مخفر الشرطة هو، في حقيقة الأمر، إجراء يُذكِّرنا بفترة النازية، وما كان يُرتكب بها من فظائع.
لا معارضة حقيقية
ويضيف التقرير “نعيش الآن مرحلة يعجز فيها اللسان عن النطق. وما يدعو للأسى حقاً أننا لا نجد على الساحة اليوم معارضة مجتمعية حقيقية يمكنها أن تتصدى، بشكل حقيقي، لهذه الفاشية الطاغية. لقد عملت الأيدولوجية، التي اتبعها طلعت باشا واستمرت حتى إعلان الجمهورية، على تنشئة قطاعات، لا يستهان بها من المجتمع التركي، على كراهية الأرمن والأكراد”.
ويقول الكاتب: “ما يدعو للأسى أن هذه النظرة الجاحدة الحاقدة تسللت كذلك إلى داخل حزب الشعب الجمهوري؛ فرأينا قادة حزب المعارضة الرئيس، وهم يتكالبون على مقاعد رؤساء البلديات، وينأون بأنفسهم عن الخوض، أو مجرد التعليق على مشكلات الدولة الأساسية؛ فلم يعد يصدر عنهم أي ردود أفعال يمكن التعويل عليها. لم يعد الحزب، أو القائمون عليه يلقون بالاً بأمور مثل القانون والحقوقأما حزب الشعوب الديمقراطي، فهو في مُنزلق آخر. لقد فتّ في عضدهم كثيراً ما لقوه، وما عانوه من اعتقالات وتنكيل، ولم نعد نرى منهم أثراً لنشاطهم وحيويتهم الماضية. وسأتناول هذا الموضوع بشكل مفصل في مقال آخر”.
والحقيقة أن التطلع إلى هذه الصورة البائسة العاجزة، فى حد ذاته، يدفع الإنسان إلى التشاؤم. ومع هذا، فلا يجب أن يعرف اليأس لنا طريقاً، لأن الأمل هو السبيل إلى الحياة والنهوض من جديد، كما أن لدينا إيماناً راسخاً بأن كل سعي لا بد أن يتبعه مستقبل مشرق.
ويتابع التقرير “من المؤكد أنه سيأتي ذلك اليوم، الذي سترى فيه قطاعات الشعب، التي التزمت الصمت إزاء الظلم وانتكاس الديمقراطية والإجراءات الفاشية، الديمقراطية، وهي تسير، جنباً إلى جنب، مع الرفاهية. ولكنهم سيدركون هذه الحقيقة بعد أن تصطدم رؤوسهم بالحائط”.
ويؤكد “ستدرك هذه الشريحة من المجتمع، في النهاية، أنها مدينة للبيت الذي تقيم فيه، وللسيارة التي تستقلها، وللمدرسة التي ترسل إليها ابنها، وللعطلة التي تخرج إليها في الصيف، ولوتيرة التفاوض للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي بدأت منذ 2002. ستدرك أنها مدينة لأي خطوة اتخِذَت من أجل التحول إلى الديمقراطية، وضمان استقلالية القضاء”.
ثمن باهظ
ويقول كاتب التقرير “أعرف أن هذا سيأتي متأخراً، وأن الثمن سيكون باهظاً، ولكن هذه نهاية حتمية، ستحدث لا محالة، لأن النظام القمعي، الذي يعتمد على حكم الشخص الواحد، لن يجني سوى الفقر والقمع وضيق الأفق والعزلة عن العالم”.
وعندما نضيف إلى القضية الكردية “ما يحدث اليوم في سوريا، فنحن لم نبتعد بحديثنا كثيراً عن عقلية الدولة ذاتها، لأننا سنصطدم بالحديث مجدداً عن الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، التي مرت كصفحةٍ مُخزيةٍ من تاريخ تركيا، فقد تحولت الدولة بكاملها اليوم، تحت حكم حزب العدالة والتنمية، إلى ما يشبه السجن المفتوح”.
ويختم التقرير “الواقع أن هذه العقلية، التي لم تتورع عن تلفيق اسم منظمة غيزي، لتلصقه بعثمان كافالا، هي في حقيقة الأمر تجسيد لفكرة الانتقام الشخصي، ولكن بعقلية دولة. وهي، في الوقت نفسه، محاولة من أردوغان للثأر من هؤلاء بسبب هزيمته الوحيدة. وهذه السياسة، التي دفع أصدقاؤنا ثمنها باهظاً، لن تجني على الدولة إلا مزيداً من الكوارث، ولكنها ستُسقِط حكم الرجل الواحد في النهاية، ستسقط أردوغان”.
القضية قضية الشعب الأرمني
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.