مقتطفات من مقالة كاظم حبيب

على الدولة التركية الحالية أن تعترف بالإبادة الجماعية التي نفذتها الإمبراطورية العثمانية في العام 1915 ضد الأرمن، التي كلفت هذا الشعب عدداً يتراوح بين مليون ومليون ونصف إنسان من الرجال والنساء والأطفال الأرمن. إنها ذكرى حزينة ومؤلمة. إن عدم الاعتراف بها من جانب الحكومات التركية المعاقبة وعدم إدانتها يسهم في ممارسة الحكومة التركية الحالية ودكتاتورها الجديد نفس النهج الدموي ضد الشعب الكردي في كردستان تركيا.

يمتلك الأرمن تاريخاً طويلاً بالعراق، حيث يشار إلى وجودهم منذ العهد البابلي، وكذلك في العهود الأموية والعباسية والعثمانية اللاحقة. وساهموا مع بقية بنات وأبناء بلاد الرافدين في بناء وتطوير الحضارة الرافدينية. وفي العهد العثماني بالعراق كان الأرمن من الأوائل الذين أدخَلوا المدارس التعليمية الحديثة إلى العراق. تبعهم العراقيون اليهود، ومن ثم الطوائف المسيحية الأخرى. وقد سبقوا مدحت باشا في إقامته مدارس بالعراق منذ توليه ولاية بغداد عام 1869 وأنشأ أول مدرسة صناعية فيها عام 1871، كما أقيمت في عام 1896م أول مدرسة ابتدائية للبنات.1 وكان الحكم العثماني قد أقَّر حق كل طائفة من الطوائف الدينية بإقامة مدارسها الخاصة.

يشير البحث الموسع عن “نشأة المدارس بالعراق” للأستاذ طه العاني إلى الدور الطليعي للأرمن في فتح المدارس الحديثة بالعراق، إذ كتب ما يلي: ” تعد مدرسة الأرمن للذكور في بغداد من أقدم هذه المدارس، إذ يرقى تاريخ تأسيسها إلى سنة 1270 هـ/ 1853م. وفي السنة نفسها تم افتتاح مدرسة الأرمن الأرثوذكس (للبنات). تلاها افتتاح مدرسة الاتفاق الشرقي الكاثوليكي سنة 1296 هـ/ 1878 م حيث افتتحتها الطوائف الكاثوليكية الثلاث، إلا أن الدراسة في هذه المدرسة واجهت صعوبات عديدة أدت إلى اغلاقها سنة1311 هـ/ 1893، حيث بادرت كل طائفة من الطوائف المسيحية الثلاث بافتتاح مدرسة خاصة بها.”2 أما الطائفة اليهودية فقد فتحت أول مدرسة لها بالعراق في العام 1864، كما يشير إلى ذلك الكاتب أميل كوهين إذ كتب: في10 كانون الأول سنة 1864 افتتحت مدرسة الأليانس الأولى في بغداد وقررت أن يكون منهجها علمانيا فقط بعيدا عن التعليم الديني وشغلت مبنى صغيراً في محلة تحت التكية وكانت أول مدرسة أليانس في المشرق العربي..”

وكانت للطائفة الأرمنية بالعراق العديد من الكنائس، إذ تشير المعطيات المتوفرة إلى ان الأرمن بنوا عدداً من الكنائس في كل من بغداد والبصرة والموصل. إذ وجدت ببغداد أربع كنائس هي: كنيسة القديس گريگور المنور قرب ساحة يونس السبعاوي- الطيران سابقا، وهي الكنيسة الأم ومقر المطرانيه، وكنيسة مريم العذراء في منطقة الميدان، وكنيسة القديس گرابيت ضمن مجمع دار العجزة في منطقة الرياض (كمپ ساره)، وكنيسة القديسين الشهداء ضمن حدود مقبرة الأرمن الجديدة في حي خان بني سعد. وكانت هناك كنيسة الثالوث المقدس التي شيدت عام 1857م في منطقة الشورجة، وظلت قائمة لفترة مائة عام، ولكنها توقفت عن خدمة المؤمنين عام 1957م، وتم بناء بناية سوق الأرمن التجاري في الشورجة مقابل البنك المركزي على قطعة ارض تابعة للكنيسة.4 ويشير السيد هامبرسوم أغباشيان إلى إن الأرمن بنوا ثلاث كنائس لهم بالبصرة، ولكن، وعبر العقود المنصرمة، لم يبق منها سوى كنيسة واحدة بنيت في عام 1736، وأعيد إعمارها في أعوام 1905 – 1909، ثم رممت مرة أخرى في عام 1931. أما بالموصل فقد بنيت كنيسة أجميازين المقدسة عام 1857 واستمرت قائمة حتى العام 1968، إذ أقيم على أنقاضها كنيسة جديدة وبالاسم نفسه. ثم بنيت كنيسة أخرى في أحد احياء الموصل، ولكن نهبت وسرق ما فيها بما في ذلك المرمر، حتى قبل تدشينها، في أعقاب حرب الخليج الثالثة عام 2003، وفي أجواء الفوضى التي سادت البلاد برغبة صارخة من جانب الولايات المتحدة مباشرة بذريعة “ليتنفس الشعب نسيم الحرية!”. وبنيت في عام 1932 أول كنيسة للأرمن بمدينة كركوك النفطية وكنيسة جديده عام2016 ،5 وهناك كنائس للأرمن في زاخو ودهوك وقرية افزروك في شمال العراق ويتم حاليا بناء كنيسة في اربيل.

وأثناء الحرب العالمية الأولى تعرض الأرمن في الإمبراطورية العثمانية إلى حرب إبادة من جانب السلطات العثمانية أدت، على وفق التقارير الصادرة عن الكثير من مراكز ومعاهد البحث العلمي والمؤرخين، إلى استشهاد عدد يتراوح بين 1000000 – 1500000 أرمني من “رعايا” الإمبراطورية العثمانية. 6 أما الكتاب الأزرق الذي أصدرته الحكومة البريطانية في العام 1916، والذي كتب مقدمته المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي فيشير إلى إن عدد القتلى بلغ حتى ذلك الحين 600000 أرمني.7 وتقدر الحكومة التركية إلى إن عدد القتلى يتراوح بين 300000-500000 أرمني، ورغم ذلك فهي لا تعترف بأن ما حصل على الأراضي التركية، وفي مناطق سكن الأرمن الأصلية، باعتبارهم من اصل سكنة هذه الأرض، كان إبادة جماعية!! وبالتالي فأن الحكومات التركية المتعاقبة تلجأ إلى مقاطعة تلك الدول دبلوماسياً، إذا ما اعترفت بأن ما ارتكبته الإمبراطورية العثمانية ضد الأرمن كان إبادة جماعية.8

لقد حقق الحكام العثمانيون ليس مجزرة بشرية ضد الأرمن فحسب، بل مارسوا وحققوا عملية “تطهير عنصرية” ضدهم، إن من تبقى منهم على قيد الحياة هرب باتجاه سوريا والعراق طالباً النجاة بنفسه. كتب الدكتور سيّار الجميل يقول: “لقد دفع الأرمن العراقيون أسوة بغيرهم من العراقيين النجباء، أثمان باهظة من حياتهم ودمائهم وتشرّدهم على امتداد تاريخ طويل من وجودهم. ولعل مأساتهم التاريخية تشكّل خصوصيتهم التراجيدية ليس في العراق وحده، بل امتدت مع وجودهم عبر التاريخ.. وكان تشرّهم التاريخي ديسابورا حقيقية عند مفصل القرنين التاسع عشر والعشرين. قاد موجات كبرى منهم إلى الفناء حتى وصلت بقاياهم نحو الجنوب، ليستقر من بقي منهم على قيد الحياة في العراق، إذ رحب بهم العراقيون ترحيبا خاصا، وشاركوهم عواطفهم ومآسيهم، فوجد الأرمن في العراق أهالي لهم، وملاذا مطمئنا، ووطنا خصبا بديلا، وبلدا آمنا، ومجتمعا راقيا حماهم من كل غوائل التمزق والضياع..”.9 وقبل أن يستقبل العراق جمهرة ممن تبقى من الهاربين الأرمن من جحيم الإبادة الجماعية، كان هناك مواطنون ومواطنات أرمن بالعراق، وهم من أحفاد الأرمن الذين وصلوا العراق منذ مئات السنين وفي فترات مختلفة، بما في ذلك الفترة العباسية في حكم العراق، الذين شكلوا جزءاً عضوياً مهماً من الشعب العراقي وعاشوا بسلام وعلاقات طيبة وإنسانية مع بقية السكان من مختلف القوميات والديانات والمذاهب. وقد ساهم العرقيون الأرمن باستقبال الأرمن الهاربين من الدولة العثمانية وسعوا للعناية بهم. وقد توزعت المجموعة على أربع مدن أساسية هي بغداد والموصل والبصرة وكركوك، إضافة إلى وجود عائلات قليلة في مدن أخرى مثل أربيل وكرمنليس، أو مدن أخرى في وسط العراق. وكان الأرمن في بدايــات وجودهــم بالعــراق “مقسمين بالنسبة الى تبعيتهم للسلطات الكنسية، فقد كان أرمــن البصرة يتبعــون مطرانية (أبرشية) اصفهان، أما أرمن بغداد فكانوا يتبعون الكرسي الرسولي في أيجميازين في أرمينيا.10 ثم اصبحت الكنيسة الرسولية الارمنية – الارثودوكسية في العراق بعد فترة تابعة بجميع كنائسها الى الكرسي الرسولي في أيجميازين من ناحية الامور الدينية والطقوس والشعائر وغيرها الى يومنا هذا. وتشير السفارة الأرمنية إلى إنه و”نتيجة للإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الأرمني عام 1915، فقد هاجر عشرات الألوف من الأرمن الى العراق. في عشرينيات القرن الماضي سكن العراق، وبالتحديد حوالي 90 ألف أرمني، بعد فترة من الزمن “عاد قسم منهم الى أرمينيا، بينما هاجر القسم الاخر الى اماكن اخرى”11. وعلى وفق المعلومات المتوفرة عن مخيم اللاجئين الآشوريين والأرمن بالقرب من مدينة بعقوبة في شهر نيسان/أبريل من عام 1918 فقد بلغ عدد الأرمن 41583 نسمة من النساء والرجال والأطفال، وتقلص العدد في المخيم في أيلول من نفس العام إلى 39191،12 أي قبل تشكيل الدولة العراقية الملكية.

 

لقد تعرضت كنائس الأرمن في كل من مدينتي بغداد والموصل إلى التدمير، وإلى اختطاف القساوسة الذين لم يتم العثور عليهم حتى الآن. وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالعداء لأتباع الديانات الأخرى والفوضى والإرهاب التي سادت بالعراق، أجبر أكثر من 3000 مواطنة ومواطن من الأرمن على مغادرة العراق باتجاه أرمينيا أو الغرب أو الأردن. وفي العام 2007 تم قتل سيدتين أرمنيتين على أيدي قوات أمن أسترالية في منطقة المسبح ببغداد، إضافة لمن قتل على أيدي المليشيات الطائفية المسلحة والدواعش وعصابات الجريمة المنظمة، إذ بلغ عدد قتلى الأرمن 45 شخصاً، إضافة إلى اختطاف 32 شخصاً أخر منهم بين عامي 2003 – 2007. جاء في المقال الدكتور سيار الجميل السابق الذكر بهذا الصدد ما يلي:14

ا